محمد سالم ينسج حكاية الأندلس بالحب والخيبة (كاتيا الطويل)

 

كاتيا الطويل

نقمة وسخط يتسرّبان من رواية محمد سالم الثانية «الجليل والصعلوك» (دار التنوير، 2013). ويعجز القارئ عن تحديد دائرة الغضب التي يسوّر المؤلّف روايته بها. فالكاتب الشاب ناقم على الأفكار الكبيرة كما على السلطة، والحبّ والعائلة. يُشعرك محمد سالم بضرورة الرفض والنفور، بحتميّة التغيير وكسر الروتين الظالم، لكنّه في كل محاولات الثورة والنهوض يعمد إلى الهرب. الأبطال جميعهم يهربون، منهم مَن ينجح بخطّة هربه، ومنهم مَن يهرب إلى مصير أبشع. فيتحوّل الهرب إلى نقطة التقاء الجليل والصعلوك، نقطة من بين عشرات النقاط التي تربط مصيري قمّة الهرم بأسفله.
لا يمكن قارئ «الجليل والصعلوك»، أن يمسك بالخيوط الروائيّة للأحداث ما لم تتّضح في ذهنه الحالة السياسيّة والاجتماعيّة للأندلس ومصر في الحقبة الزمنيّة المتراوحة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر. فقد عمد المؤلّف إلى الاستعانة بالتاريخ العربي ليبني عليه أحداث روايته. يبدأ الخط السردي مع جعفر الجدّ الأوّل للجليل. وجعفر فارس عربي شجاع عاش في فترة حكم أبو عبدالله محمد الثاني عشر آخر ملوك المسلمين في الأندلس الذي توفي عام 1527. وفي تلك الفترة كان الانقسام مستشرياً في غرناطة المملكة العربيّة المسلمة الأخيرة التي لم تكن قد سقطت بعد بيد ملوك أوروبا. وعلى قدر حبّ جعفر لأندلس المسلمين، جاءت نقمته على ملوكها الغارقين في بحور أطماعهم ومؤامراتهم التي سهّلت دخول الإفرنج إلى الأندلس وسلب المسلمين آخر أمجادهم فيها. وفي محاولة منه لتخليص الأندلس من بؤرة الفساد القابعة فيها، حاول جعفر اغتيال الملك، وعندما فشل في ذلك اضطرّ إلى الهرب إلى مصر.
لكنّ مصر لم تكن أفضل حالاً من الأندلس، فقد كان الفساد يطفح من حكّامها المماليك. وفي محاولة منه للهرب من خلافات الأندلس ومؤامراتها ودسائسها، لاقى جعفر الحالم بأمجاد العرب وبعودتها، ما روّعه من سلاطين مسترسلين في البحث عن طرقٍ جديدة لإشباع ملذّاتهم ورغباتهم وأطماعهم.
وشاءت الأقدار أن يُعجب السلطان محمد بن الأشرف قايتباي الدائم السكر والترنّح، بالفتاة الوحيدة التي أحبّها جعفر وتزوّجها. ولكون السلطان دائماً على حقّ، ودائم الحصول على ما يبغيه، اضطرّ كلٌّ من جعفر وزوجته وأخويها وعائلتهما إلى الهرب من مصر باتّجاه الصحراء خوفاً من انتقام السلطان.
وتجد العائلة في الصحراء ملاذها من شرور البشر وأطماع حكّامهم، فيقيم جعفر مملكته على دماء أخوي زوجته وابنه الصغير. فهو تعلّم أنّ تعدّد الورثة الذكور يؤدّي حتماً إلى الخلافات فالمؤامرات فالاغتيالات فالانقسامات فالسقوط. وهذا ما حرص جعفر على نقله إلى ولده ومن بعده إلى أسلاّئه جميعاً. المملكة القويّة لا تحتمل سوى وليّ عهدٍ واحد، المملكة التي تطمح إلى البقاء لا تُبقي لنفسها أكثر من رأس واحد. فانتقلت هذه الوصايا من الأب إلى ابنه، وشربت رمال الصحراء الكثير من دماء الأبناء والأحفاد عملاً بنصيحة الجدّ الأوّل جعفر. ووصل الدور بعد قرون طويلة إلى الجليل، الآمر الناهي، المسيطر الواحد الذي لا منازع له.
«وقف قبالة الشرفة كعمود رخامي مرتكزاً على صلفه المتأصّل وغروره المتغلغل… لا ينحني للسعات الشمس، ووخز الريح المغبرة… لا ينصت إلاّ لنفسه، فهو يؤمن بأنّ ما دونها هراء لا يعنيه… يطيل النظر في الأنحاء كصقر يرقب فريسته… يحيط بها دونما يتحرّك سواد عينيه في بياضهما لأنّه يحفظها، أو يدرك عدم تغيّر شيء إلاّ بإذنه، لذا لا ينشغل بما يراه». (صفحة 15) هذا هو الجليل. يُطاع أمره قبل أن يُنهي كلامه، رغباته أوامر، وأوامره منزلة لا نقاش فيها.
فقد ورث الجليلُ الحكم في مملكة أبناؤها جهلة لم يخرجوا من الصحراء منذ قرون ولم يدركوا تغيّر الأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. فهم لا يزالون يعيشون على واقع أنّ المماليك يسيطرون على مصر ولا يزالون يبحثون عن جعفر وأبنائه للانتقام منهم.
وبينما انتقل الحكم في مصر منذ مئات السنين من يد المماليك أبقى الجليل على هذا الواقع سرّاً، محافظاً بذلك على سلطته وحكمه وحياة الترف والرفاهية التي يعيشها. فأهل المملكة عالقون في مملكتهم وجهلهم وسجنهم، محاطون بالصحراء وخوفهم من المماليك، لا يجرؤون على الثورة ولا على الهرب.
وعلى عكس عراقة أصل الجليل وسلطته المطلقة، يظهر الصعلوك البائس المقموع: «يود لو يطوي الأرض في بضع خطوات لينأى بأذنيه عن سخرية الأوغاد، ولمز أهل القرية، ومشاغبة الأشرار وأذى الصبية… الكل يحتقره ويستلذ أذاه… فأين الملاذ؟… ما ذنبه؟!… إنّه رجس من صنع زانية… ذاك هو حجة المنكلين به… لكنه لم يؤذِ أحداً من قبل ومستعدّ لمسامحة كل من أذوه فقط لو كفّوا أذاهم عنه…» (صفحة 29)
وإذ لا يلتقي بطلا محمد سالم، نجدهما يشتركان في نقل أحداث الرواية، فقد أنصفهما الكاتب ومنحهما القدرة على الكلام بالتساوي. فظهر كلاهما بمظهر المغبونَين البائسين اللذين حكم عليهما أصلهما بحياة بؤس وألم من دون أن يختارا ذلك. فلا الجليل يريد أن يكون جليلاً، ولا الصعلوك يريد أن يكون صعلوكاً.
والتاريخ والسلطة ينالان أيضاً حصّتهما من النقمة والسخط. فيصفهما الكاتب بواقعيّة مؤلمة، باردة، لا تخلو من مرارة الحقيقة. ويبقى الحبّ العامل المقهور في هذه الرواية. فلا قصّة حبّ واحدة تنجح. جميع العشّاق في هذه الرواية يحاولون من دون جدوى أن يلتقوا بمعشوقيهم. ودائماً ما يظهر الحبّ حبّاً من طرف واحد، بينما الطرف الآخر مشغول عنه بسعيه وراء المال أو السلطة أو حبّ آخر. وفي حال بُني زواج على أسس تقرب من الحبّ، ابتُلي بالعقم، ابتُلي بهمّ إنجاب صبي. فرجل الدين يعجز عن إنجاب الصبي، والــجليل كـــذلك، وكأنّ العقم هو العقاب الوحيد المقدّر.
«الجليل والصعلوك» رواية تنبض بالحياة وبمواضيع شائكة ومشوّقة، فقد استطاع محمد سالم أن يضرب مسلّمات وكليشهات عدّة بحجر واحد. فخرجت الرواية حافلة بالتفاصيل والمعاني. لقد أجاد الكاتب سبك أحداثه ورصفها بتماسك ورزانة على رغم ضعف النهاية التي يتوقّعها القارئ أكثر قوّة ومتانة. ولا بدّ من الإشارة إلى الأخطاء اللغويّة الكثيرة الشائعة في الرواية والتي سلبتها الكثير من جماليّتها الفنّية. فهذه الأخطاء غير جائزة وكان لا بدّ من التنبّه إليها، عسى أن يتمّ التدقيق فيها في الطبعات اللاحقة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى