مذكرات المشير.. لماذا حُبست 40 عامًا؟

في تصديره لهذه المذكرات، التي كتبها المشير أحمد إسماعيل، يوضح لنا نجله السفير محمد أحمد إسماعيل لماذا كان على هذه المذكرات أن تظهر الآن، وحدد الأمر في أربعة أسباب: أولها: قيام ثورة 25 يناير، التي أتاحت لنا قدرًا كبيرًا من الحرية والديموقراطية، وشجعت الكثيرين على اتاحة ما لديهم من أسرار ومذكرات ظلت لسنوات طوال حبيسة الأدراج.

وثانيها: أهمية هذه المذكرات، التي سجلها بخط يده، وقيمتها الكبيرة فى تاريخ مصر الحديث، فهي تحتوي على أوراق ومستندات تبين اتجاهات السياسة العسكرية المصرية وقتئذ.

وثالث الأسباب: الشعور بأن هناك من لا يُقدر الدور الحقيقي الذي قام به المشير في حرب اكتوبر.

وأخيرًا: ظهور أحاديث إعلامية مغلوطة عن حرب أكتوبر، لا تتوافق مع ما تضمه هذه الوثائق، فكان نشر هذه المذكرات من باب الأمانة التاريخية.

لكن سببًا آخر هو الذي دفع مجدي الجلاد للاهتمام بهذه المذكرات ونشرها، حدده في استهلاله المعنون بـ “لموا الكراريس”، فيقول: “طوال أربعين عامًا خضعت حرب أكتوبر لهواية مصرية قديمة، لا نريد ان نبرحها، وهي كتابة التاريخ بالهوى الشخصي، الحقائق هي ما نراه نحن، والوقائع بين أصابع من يدونها، لذا بات طبيعيًا أن يفرد المؤرخون مئات الكتب والمؤلفات للسادات ومبارك، ويتجاهلوا المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية، الذي وضع خطة الحرب وقاد الجيش في نصر أكتوبر، إنه التاريخ حين يُدوَّن لممالأة الحاكم، وكأن الموت الذي خطف المشير المنتصر عقب أشهر قليلة من انتهاء الحرب، تآمر أيضًا ليخطف دوره البارز فيها، غير أن الموت ذاته كان سينهي حياة أحمد إسماعيل لو فشلت خطته في الحرب؛ إما الموت المادي في محاكمة الهزيمة، أو الموت المعنوي له ولذريته من بعده.

لكن الرجل الذي تقاعد في بيته قبل الحرب كان أكثر شجاعة وكفاءة من غيره من القادة الذين قالوا للسادات بصوت مرتفع “ليس بمقدورنا أن نحارب الآن”، ولأنه لا يؤمن بالمستحيل استدعى القائد الذي امتلك الإرادة الحقيقية والخطة المتكاملة، وقال المشير أحمد إسماعيل “بمقدورنا ان ننتصر”.. وفعلها.

إننا ننقب عن مذكرات المشير أحمد إسماعيل عرفانًا بالجميل لهذا الرجل، وحتي يعرف أبناؤنا وأحفادنا من هو بطل أكتوبر، الذي تجاهله البعض لإيمانه بضرورة “العمل في صمت”.

ويكاد يكون هذا السبب الأخير هو ما دفع “دار نهضة مصر” لإصدار هذا الكتاب، متزامنًا مع كتاب “كلمة السر” الذي يضم مذكرات اللواء طيار محمد حسني مبارك في الفترة من يونيو 1967، إلى أكتوبر 1973.

ويقول الناشر محمد إبراهيم: “بين السادات ومبارك، مع الاحتفاظ بحق كل منهما فيما قدم، ضاعت حقائق عظيمة لأبطال وبطولات ظلوا وظلت خافية، تسكن النسيان مع أصحابها، لعل من بينها الدور الحقيقي للمشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية الذي أدار المعركة مع العدو الإسرائيلي، ولا أحد يعرف إن كان ذلك قد جرى بقصد أو بدون، لكّن النتيجة كانت في الحالين واحدة، وهي أن عامة الشعب لا تعرف الرجل، بل إن البعض لا يعرف حتى اسمه!”

وإذا كان جميع من أسهم في نشر هذه المذكرات قد فعل ذلك من قبيل التعريف بهذا الرجل الذي صنع نصر أكتوبر، فإن المشير أحمد إسماعيل يطلعنا في بداية مذكراته على الباعث على تدوينها ، فيقول: “ما دفعني إلى كتابة مذكراتي هو يقيني بأني أديت في حياتي جزءًا من واجبي نحو بلدي، ونظرًا لأني لم أكن مهتمًا بالدعاية عما فعلت، فقد فوجئت بأن الوقائع قد طمست، وأن التاريخ يتعرض إلى تحريف يصل إلى حد التزوير، كما تعمد البعض أن ينسب أعمالي إلى غيري، بل إن هناك من قصد تشويه الدوافع النبيلة لتلك الأعمال”.

في أول فصول مذكراته، يؤرخ المشير أحمد إسماعيل لبدء العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي عسكريًا في عام 1955، عندما وصلت أول شحنة من السلاح الروسي عبر تشيكوسلوفاكيا، هذه الشحنة التي وقع اختيار الرئيس جمال عبدالناصر، على أحمد إسماعيل ليتولى مهمة تدريب الجنود المصريين على كيفية استخدامها.

أزعجت أنباء وصول هذه الشحنة من السلاح الروسي إلى مصر العدو الإسرائيلي، فقرر توجيه ضربة لقواتنا المسلحة لوأد تقدمها، فكان قراره المشاركة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. هذه الحرب التي يؤكد المشير أحمد إسماعيل أن مسارها أظهر جليًا فشل المشير عبدالحكيم عامر كقائد عسكري، وأنه على الرغم من توقعه إقالته، فوجئ بجمال عبدالناصر يبقي عليه!

وتوالت أخطاء عبدالحكيم عامر، وكان أشهرها على الإطلاق ما حدث في نكسة 1967 وقرار الانسحاب، الذي يقول عنه المشير أحمد إسماعيل: “كان كارثة، فقد أصدر عامر قرارًا بالانسحاب دون توفير حماية جوية للقوات تضمن سلامتها أثناء الانسحاب الذي صدر القرار به في الثانية من صباح السادس من يونيو/حزيران، وكان على قواتنا السير مسافة مائتي كيلو مترًا دونما أية خطة معدة سلفًا لتنظيم عملية الانسحاب”.

وكانت النتيجة أن ضربات العدو الإسرائيلي لم ترحم تلك القوات، بل طاردتها في صحراء سيناء كلما تمكنت من ذلك، وباستخدام قنابل النابالم، فاستشهد من استُشهد، وأُسِر من أُسِر.

وكان من نتائج هذه النكسة إقالة أحمد إسماعيل من رئاسة أركان جبهة سيناء، لكن في اليوم التالي يعيده الرئيس عبدالناصر قائًدا لهيئة التدريب!

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُقال فيها المشير أحمد إسماعيل من منصبه، فبعد أشهر قليلة، وبالتحديد في 12 سبتمبر/أيلول 1967 صدر قرار بإقالته من جديد بسبب ما حدث في “الزعفرانة”، ونجاح العدو في إتمام عملية إبرار لمجموعة من جنوده وإنزالها على أرضنا دونما أية مقاومة.

ويمر ما يقارب الأربع سنوات، يموت فيها جمال عبدالناصر، ويتولى السادات الحكم، ليقوم بما أسماه “ثورة التصحيح” في 15 مايو 1971، ويعيد أحمد إسماعيل إلى الخدمة رئيسًا للمخابرات العامة.

وفي أكتوبر 1972 يصدر السادات قرارًا بتولي المشير أحمد إسماعيل منصب وزير للدفاع، وهو الذي سبق وقدم للرئيس جمال عبدالناصر خطة حرب كاملة مع إسرائيل لكن عبدالناصر لم يقدم على تنفيذها.

وكانت أولى عناصرها مفاجاة العدو، عن طريق خداع استراتيجي وتعبوي وتكتيكي، تشارك في تنفيذه مع وزارة الحربية كل الأجهزة المعنية في الدولة. بينما كان اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف هو ثاني العناصر، فكان ضروريًا تحديد انسب الوسائل والأوقات التي تضمن نجاح هذه المهمة في أقصر وقت وبأقل خسائر ممكنة، بينما جاء التفكير في كيفية تقليل أثر تفوق العدو في المدرعات والطيران كثالث العناصر في خطة الحرب، فوضع الجندي المصري أمام الدبابة الإسرائيلية، وكان لزامًا أن يكون هناك تعاون كامل بين قوات الدفاع الجوي بشبكة صواريخ، وقواتنا الجوية بطائراتها بحيث يتمكن الإثنان معًا، وبتنسيق كامل، من مواجهة طائرات العدو.

ونُفذت الخطة بحذافيرها، وانتصرت مصر.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى