ملامح الأخوة تتناثر على صفحات “أخي تشي”

وشى فلاح بائس بغيفارا الذي كان يعالجه ويعلمه، فوقع الثائر ورفاقه في قبضة كتيبة من الجيش البوليفي وبعض رجال المخابرات الأميركية، وفي التاسع من أكتوبر/تشرين الاول 1967 أطلق جندي الرصاص على تشي تنفيذا لأمر قائده، وقام جنود آخرون بتنفيذ تعليمات نفس القائد فمثلوا بالجثة.

أخذوا يديه المبتورتين اللتين قطعتا من أجل حفظ بصماته لاستخدامها لاحقاً في التعرف على هويته، وحرقوا متعلقاته وضمنها مذكرات أيامه الأخيرة في غابات بوليفيا، ودفنوه مع رفاقه في قبر جماعي، حتى لا يتعرف أحد على جثته.” وليظل موته سرا معلنا، فقد أعلنت السلطات البوليفية في اليوم التالي عن مقتله، لكن الأسرة التي كانت قد فقدت أثره قبل أسابيع سارعت بنفي الخبر، حتى أكد لهم فيدل كاسترو الخبر في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الاول.

عندها أيقنت الأسرة برحيل تشي، وقرر الجيش البوليفي عرض جثة غيفارا في وسط حديقة المستشفى المحلي لمدة سبع عشرة ساعة ليكون عبرة لغيره من المخربين – كما وصفهم-  وفي الحادي والعشرين من اكتوبر/تشرين الاول1967، اختفت جثة ارنستو على نحو غامض.

 يقول صاحب الكتاب “وصلنا نبأ مقتله في العاشر من أكتوبر عندما نُشرت صورة مقتله، ورأى بعضنا أنها صورة مزورة في حين وجدتها حقيقية. وبعد يومين طار أخي روبرتو إلى فالي غراندي للتعرف على جثته، إلا أنه لم يجد أي جثة هناك. ثم طار روبرتو إلى لاباس ولم يجد أي جثة هناك. وعاد أخي في نهاية المطاف إلى بوينس آيرس من دون أن يرى شيئا يدل على موت أرنستو”.

يقول خوان مارتن “لم يقصدوا تصفية تشي جسديا فحسب بل القضاء على كل شيء له صلة به حتى لا يكون له قبر، وتصفية صورته واغتيال أفكاره“.. يقول جون لي أندرسن “إذا ما وجد ثائر أو مقاومة فإن ذلك الوجه يبقى هناك: ذلك البطل الثوري البوليفي الذي تدعوه الراهبات القديس أرنستو”.

تقرر الأسرة التزام الصمت، لم يتحدث أحدهم لسنوات عن أي شيء يخص تشي، لم يكن لديهم ما يمكن قوله، ولا غيرهم كان يعرف السر، وظل مكان المقبرة الجماعية مجهولاً إلى أن وجده الصحفي الاستقصائي الأميركي جون لي أندرسن أواخر عام 1995، بعدما قدم رشوة كبيرة للجنرال السابق بالجيش الفنزويلي ماريو فارغاس، حيث بدأت رحلة البحث عن الرفات التي استغرقت عاماً كاملاً، انتهى بالعثور عليه في 1997، بعدها تم تأسيس ضريح له شيد في مدينة سانتا كلارا بكوبا، وفيه دفن رفات جيفارا ورفاقه الذين قُتلوا معه في قرية لا إيجيرا.

يصعب علي أن أشرح كيف تحوّل أخي إلى تشي، وكان يكبرني بخمسة عشر عاما، لهذا كان ينظر إلي بأنني طفل صغير

تحدث وكتب سيرة غيفارا وبعده تحدث الجميع، فقد أحدث كتابه ثقبا في جدار الصمت، ومازال الثقب يتسع فلم يتوقف سيل الكتب والروايات والأفلام عن حياة الثائر الأشهر. ومن أهم هذه الكتب ما قدمه خوان مارتن غيفارا عن شقيقه الأكبر إرنستو تشي غيفارا، في كتابه  “أخي تشي” الصادر مؤخرا في كل من المغرب ولبنان عن المركز الثقافي العربي، في خمسمائة وستين صفحة ترجمها حسين عمر.

يقول خوان مارتن في استهلاله لكتابه “كوني أخاً لتشي لن يكون شأناً تافهاً”، ويضيف في موضع آخر “يصعب علي أن أشرح كيف تحوّل أخي إلى تشي، وكان يكبرني بخمسة عشر عاما، لهذا كان ينظر إلي بأنني طفل صغير. ولكنه لم يضغط علي بل كان يداعبني، كان يعاملني مثل ابن له”.

ويضيف “كان هناك فارق في العمر بيننا يبلغ 15 عاماً. كنت استمع  إليه أكثر مما كنت استمع إلى أشقاء لي في نفس العمر. هل كان مثل الأب؟ ربما كان بديلاً له، ولكن في الوقت نفسه، كنا نفعل الأشياء التي يفعلها الاخوة فقط ، كنا نلعب  كرة القدم، وكنا نمرح سوياً”.

ويتذكر “كان والدي يريد العيش دون أن يقيده شيء، ويمكنك القول أنه كان الى حد ما منطلقا، وهذا أعطانا الشعور بأننا يمكن أن نسافر، وأن نرى العالم. في حين أن والدتي كانت أكثر صرامة، وكانت لديها أفكار صعبة جداً. كان تشي مزيجاً من الاثنين، نشأتُ في ظل أرنستو ولم أستطع الفرار منه”.

يكتب تشي في رسالة لوالده “بوسعي أن أصبح رجلاً ثرياً لو زاولتُ مهنتي وقمت بفتح عيادة لمعالجة المصابين بالحساسية ولكن مثل هذا الإجراء ليس إلا خيانة للكائنين اللذين يتصارعان في أعماقي أنا الاشتراكي أنا الرحالة”.. الرحالة دفعه لتأجيل دراسته للطب لمدة عام استغرقته رحلته الأولى بالدراجة البخارية إلى بلدان القارة اللاتينية، تلك الرحلة التي صهرت وعيه وجعلت منه ذلك الثائر، فعاود ارتحاله ثانية مستقلا القارب “غرانما” ليبحر من المكسيك إلى كوبا، “حتى عام 1956، كنت خوان مارتن غيفارا، وبحلول عام 1957، اصبحت  شقيق الثوري إرنستو غيفارا، رفيق فيديل كاسترو والمحارب الشجاع. ثم الأسطورة”.

بعد انتصار الثورة دعا غيفارا أهله، التقوا في هافانا، كان خوان معجبا بأخيه الذي يقنع براتب جندي، لكن الأب يطلب الأب سيارة مع سائقها ويقابل مدير البنك ورؤساء الشركات ويعقد الصفقات مستغلا كونه أبو ارنستو تشي، لكن صبر الابن نفد فأعاد الأب إلى الأرجنتين.

توقف خوان مارتن لسنوات عن استعمال اسم عائلته “من الخطر أن تكون مرتبطاً بتشي غيفارا”، لكنه لم يستطع تجنب اتباع الأفكار مما قاده إلى السجن لثمانية سنوات، وهناك يراه ضابط قضى حياته في ملاحقة  يساريي حرب العصابات، ويدرك مدى الشبه بينه وبين غيفارا، وحينما يخبره باسمه الحقيقي يقول: “يا له من رجل عجيب أخوك الرائع”.

وظل ملتزما بقرار الأسرة بالسكوت عن كل ما له شأن بغيفارا وموته حتى عام 2006، حينما تراجعت الحكومة الأرجنتينية عن وعدها المعلن بتعويض السجناء السياسيين فانتقدها خوان عبر مؤتمر صحفي، وكان لابد أن يتحدث فيه عن غيفارا.

 وبعد ستة وأربعين عاما من مقتل غيفارا جرؤ شقيقه على زيارة المكان الذي أعدم فيه فقرر حينئذ تأليف الكتاب بغرض إظهار تشي إنسانا طبيعيا له أم وأب وأخوة وليس كائناً خرافياً أو أسطوريا. تتناثر ملامح الأخ عبر صفحات الكتاب لترسم جدارية كبيرة لأيقونة الثورة، وتستعيد صورته وأيضا تؤرخ لبلده وعصره.

وربما الملمح الأخير في الصورة ترسمه الوصية التي تركها لأبنائه “كونوا على الدوام قادرين على الاحساس من أعماق وجودكم بكل المظالم المرتكبة ضد أي شخص كان، وفي أي مكان كان بالعالم”.

 

ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى