«هذيان نواقيس القيامة» لمحمد جعفر.. أصداء أيديولوجية

يحفر الخوف عميقًا في اللاوعي الجمعي العربي. ويبرز في رواية الكاتب الجزائري محمّد جعفر «هذيان نواقيس القيامة»( منشورات ضفاف 2014) خوفٌ مختلف تجلّى في الامتناع عن تبنّي فعْل الكتابة، فيحيلها إلى شخص آخر. فهل الكتابة الرّوائيّة تهمة، أم أنّ هناك خيوطًا ما بين الاتّجاه إلى الوقوف على الحياد، وما بين الأحداث الّتي تدور حولها الرّواية، وهي قتْل مريم التي عُثِر عليها جثّة هامدة في شقّتها.

المفارقة أنّها ماتت، ولكنّها هي الحاضرة دومًا في السّرد. تتّصل بها سائر الشّخصيّات، التي تنهض علاقاتها بعالم القصّ استنادًا إلى علاقتها بمريم. إذ تفرض، وهي في عالم الموت، نفسها بقوّة، بسطَت سلطتها على الحدث، وعلى الشّخصيّة في آنٍ واحد: «مهما حاولت الابتعاد عنكِ أجدك تعودين، وها أنتِ تسحبينني إليكِ رغم أنّك صرتِ ميتة!».( ص. 134). جسد مريم لم يكن حاضرًا كلّ الحضور، ولا غائبًا كلّ الغياب. وتاليًا، لم يكن الكلام عنه، وحوله، إلّا ما يشبه الهذيان في تنقّله، وتفكّكه، وانفعاله، وكثافته. هذا الفضاء الأنثوي، الذي حاول المجتمع سحقه، انتفض من خلال حالة الإرباك، التي أحدثها حيًّا، وميتًا.

كما يتجلّى الهذيان في العالم الّذي تصوّره الرّواية، فبدا عالمًا ممزوجًا بالغرابة، ولا يجزم القارئ إن كان الأمر يتعلّق بحكاية واقعيّة، أم أنّها مجرّد تهيّؤات.

يكشف الرّوائي ترهُّل بنية المجتمع الجزائري، وفساد العلاقات على الصّعيد المهني، والأخلاقي، والعائلي. وبالنّظر إلى سيمياء اسم المحقّق (رشيد الأزعر) في قضيّة مقتل مريم، ترشح دلالات الانحطاط الخلقي؛ دخل لمعاينة الجثّة، فاغتصبها! أمّا منصور القاضي، فتستّر بالقضاء لينتهك حقوق النّاس.

يرسم الراوي انحدار مسار مجمل العلاقات في الرّواية ( حبّ أو زواج) من القمّة نحو الهاوية، لم يُكتب الاستمرار لأيّ منها، سقوطها كان سريعًا، لكنّه لم يكن مفاجئًا. وتحوّل السّرد تيّارًا جرف الشّخصيّات إلى متاهة متوقّعة. تُجلَد المرأة في حياتها وفي مماتها. بحثَت مريم عن أمان مفقود في زيجاتها المتعدّدة وفي علاقاتها، إلّا أنّ ما عوّلَت عليه كان مجرّد»هذيان». وفي كلّ مرّة كانت تحاول التّشبُّث بالحياة من خلال الآخر. توقّف وجودها على الرّجل، المعادل للخارج عن الذّات، وهو نفسه الذي سلبها الحياة. هو قدرها الذي اندفعت نحوه بجموح.

قدّمَت «هذيان نواقيس يوم القيامة» صورةً مأزومةً عن الشّخصيّات، هي في معظمها هشّة، لا تمتلك تقنيات الصّمود، بل تجنح نحو الحشيش والسّكر (فوزي العياشي، رشيد). ينفتح السّرد باستمرار نحو الـتّأزّم. هي صورة عن الواقع الجزائري تحديدًا والعربي عمومًا: الانحلال، الفساد، فقدان الثّقة، الهزيمة، الاستسلام.

ما يُلاحَظ أنّ الشّخصيّات مكرورة، وإن تنوّعَت أسماؤها، أو إطارها الثّقافي أو الاجتماعي؛ فهي تعالج الأمور من المنظور الإيديولوجي ذاته، ممّا يشير إلى تحكُّم الكاتب بزمام السّرد. وهذا التّوجّه الأحادي لم يترك صوتًا مغايرًا في الرّواية، فجاءت الشّخصيّات – بأفعالها – أصداءً لبعضها البعض. عجزت عن احتلال المشهد السّردي، واحتاجت وساطات سرديّة تفسّر حركاتها، وأقوالها، ومشاعرها. فتغلغل السّارد إلى المناطق المعتمة في الشّخصيّة، ووصف عمقها النّفسي في اضطرابه، وغليانه» كان الفضاء الذي أجُبِر على العيش فيه فضاء مغلّفًا بالجهامة (…) نمت الكراهية في فؤاد الصّغير ضدّ كلّ الذين زجّوا به في هذا العالم، وضد الوسط الذي أُقحِم فيه عنوة.»(ص.62).

ويبرز التّدخّل السّافر للرّوائي في غير موضع من «هذيان نواقيس القيامة»، يقول في معرض حديثه عن «موحّد جابر» المولود، وبه إدمان على الكتب: «فالعمليّة الإبداعيّة أبدًا ما كانت شيئًا قدريًّا، لأنّه ومن دون ذلك الخيار العقلاني الّذي يتعزّز من خلال التّجربة المكتسبة تضيع الموهبة ولا تتطوّر».(ص.129)

وتجدر الإشارة إلى أنّ الرواية لم تكن محكومةً بنظام كرونولوجي؛ كسّر الرّاوي حواجز الزّمن، واستحضر المقصي، المُغيَّب. شكّل الماضي كابوسًا بالنّسبة إلى الشّخصيّات. أخفقَت في التّحرّر من سطوته، فكان يتسرّب إلى حياتها مقطِّعًا الحاضر، ومؤسّسًا عدميّة المستقبل. وتبقى حكاية مريم لغزًا لا حلّ له، وكأنّ الرّوائي لم يكن همّه الوصول إلى حقيقة ما، بل البحث المتواصل الّلانهائي، عن أسئلة عديدة لا تُقال.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى