هزائم بسمة الخطيب تنضج في المطبخ

نتابع الأرجوحة التي اتخذتها الراوية في «برتقال مر» للكاتبة بسمة الخطيب (دار الآداب) مكاناً مراوحاً مخاتلاً تطلُّ منه لتحكي، بين هزة للخلف تطل على ماض أكثر ما فيه مؤلم، وأجمل ما فيه يكاد يغيب، وهزة للأمام، تشرف على مستقبل غامض لشخص منتظر، وكأنه آتٍ من الحكايات الخرافية، أعدت له نساء العالم تاريخاً من الوجبات على مائدة طولها ثلاثون سنة.

تمثل هذه الأرجوحة صيغة سردية بين أكثر من زمن، وتحت أكثر من سماء، في فضاء زمني قريب نسبياً من حاضرنا، وفي جغرافيا متقاربة نوعاً ما في شرقنا العربي.

في روايتها الأولى «برتقال مُر» اختارت الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب أن تكون ذلك الصوت الذي يدوِّن للمرة الأخيرة أسراراً محاها الزمن، بعدما نهشتها الحروب، وليس أكثر ألماً من أسرار نساء يعانين، تجسدهن بطلة العمل/ الراوية التي تقترب من تمام عقدها الثالث. كلّ الأسرار الكاشفة تدور في فلك الطعام، داخل المطبخ وخارجه، وتربط بين النساء حيناً، وبينهن والرجل أحياناً ، بل وبين الشعوب كذلك: «عاش الفلسطينيون معنا دهراً، لكن ملوخيتهم لم تدخل بيوتنا، بل بقينا نسمّيها «سايطة»، ولم نستعذب «المسخن» بحجة أنه يهدر مؤونتنا من السمّاق! ساكناهم وصاهرناهم، لكنّ الطبخ شيء آخر. ليس الأمر تعالياً أو عنصرية، بل لعلّه مسألة توقيت. لقد ساكنونا أواسط القرن العشرين، وذاك زمن تكاسلنا عن الاجتهاد والتطوير. ربما دخلت النكسات والهزائم إلى المطابخ، وجعلت التفنن في الطبخ رفاهية لا تجرؤ النسوة عليها. وأكيد أنّ الحرب قتلت شهيّة الابتكار وسنّة التجديد، فحاول المهاجرون منا موازنة المسألة، واهتموا في مهاجرهم بطبخات الوطن المحترق».

وفي المقابل، تهجو الكاتبة على لسان بطلتها كل الوجبات المصنعة، وكل نفايات مطبخ العولمة، وتستهين بأية وجبة لا تخرج من المطبخ التقليدي: «البيتزا منقوشة بجبنة، بس زايدين عليها زيتون وبندورة وخضرة، والهمبرغر سندويشة لحمة مدورة، هاي كل القصة… لا اختراع ولا شيء». أمّا المرتديلا فمجرد «جلاغيم اللحم والجلود والشحوم… زبالة الحيوانات»، وهو ما كانت تقوله لنساء الحي حين كنّ يطلبن منها علب مرتديلا من مصنع للمعلبات كانت تعمل فيه قرب مدينة صيدا.

تبْرَع بسمة الخطيب، على لسان راويتها، في استجلاب الوصفات السرية للأكلات المندثرة، أو تكاد، وكأنها تكتب موسوعة حنين لتاريخ طاب فيه الطعام، فطابت به الحياة. ولكنها تُبدع – كذلك – في ابتكار وصفات أخرى للبشر، باستخدام مؤونة الطعام في المطابخ. نقرأ ، مثلاً، كيف تصف عامل صيانة جهاز التكييف بأنه هزيل «أشبه بعرق نعناع أخضر في كوب شاي ساخن».

في الوقت الذي تكره فيه أمَّها، تعشق الرَّاوية، خطيبَ خالتها، فاطمة، منذ أن عاشت معها في بيت الجدة. الخالة التي استبدلها الخطيب بزوجة روسية بنيّة الشعر، كمعظم الروسيات اللواتي جلبهن شباب القرية حين عادوا من دراستهم الجامعية المثمرة، انهارت في بكاء مرّ ليلة فسخ «المنتظر» خطبته لها!

لكنّ حب فاطمة الذي مات بهجرة رجلها، لم يمت عند الرَّاوية، بل نما مع الأيام والسنوات، منذ كانت تدس دفاتر يومياته، أو أياً من صوره تحت مخدتها، أو تسترق شمه ولمسه، بينما كان قلبها يختلج وهي تنظر إلى سرير خالتها لا تستطيع تخمين ردّ فعلها «لو اكتشفت أن الخنجر المسموم الذي طعن قلبه موجود تحت وسادة تبعد عنها ثلاث خطوات».

هذا الخوف من فاطمة وردّ فعلها عَبَرَ الزمن البعيد إلى ليلة الموعد مع ذلك الرجل الغامض، الذي تخاطبه همساً، وهو لم يأتِ بعد: «ماذا لو دَهَمَتْني الآن، وعرفتْ أنني دعوتُكَ، واكتشفت أنني منذ سنواتي الأولى أحبُّكَ، وأنني لم أتقاسم معها مآسي اليُتم والوحشة والوحدة فقط، بل حب رجل واحد أيضاً».

الرواية مليئة بالضياع والفقد والغياب، والأحداث رهينة بانتظار ما لا يأتي ومن لا يجيء. الأمر لا يخصّ فقط وجبات الطعام ووصفات الطهو، وإنما يخص بشراً، بالمثل. فهناك تيم، الرجل الغائب، الذي تكاد تؤجل موعد اللقاء به، وهناك كذلك الطفل الرضيع الذي أضاعته أمه الكردية واختفت هي الأخرى بحثاً عنه، ولدينا الفدائي الفلسطيني حسن الذي توفيت أمه في مخيم البصّ في مدينة صور ودُفنت ملابسه معها، كما أوصت.

أعرف شغف الكاتبة بحكايات جدتها، حتى قبل أن تصدر روايتها، وعشقها لموروثها الشعبي، وهو شغف تخمّر مثل رغيف خبز بلدي لينضج كما نضجت غواية الخبز، التي تعلمتها من جدتها، وكأنها كانت تسلمها أحد مفاتيح الحياة بزهدها ودنيويته.

لوهلات – أثناء القراءة – كانت تمر كلمات الروائية إيزابيل ألليندي في نصها «آفروديت» بوصفات طعام حسية ربطتها الكاتبة التشيلية بالشهوة، وطقوس إروتيكية لآلهة الجمال والرغبة عند الإغريق، لكّن المقابلة والمعادل الموضوعي، كانا يتوهان، حين يبرز خجل سرد فتاة عربية حملت سذاجتها معها وأفكارها البريئة من القرية التي أنجبتها، وما كانت لتُنشيء عالمها الموازي إلا لإحياء التاريخ، وليس لإثارة شهوانية القارئ.

عاشت القروية الشابة سنوات طوالاً بندوب ظاهرة وخفية، لجروح ماضية وآنية، اسمها المجهَّل أصبح يخص كل النساء، وبيتها المجهول أصبح يشير لكل القرى، ووجعها الخفي أصبح رمزاً لدروب آلام البشر، وأملها الوحيد الذي تستعد له أصبح أمل القاريء في مُخلص يدرك أن حضوره قد ينقذ الراوية وعالمها في آن.

ها هي تستعد له، حتى تتوه عن بيتها الجديد، وفي قلب التيه تحكي عنه، بكثير من الحب والنقد، وفي غمرة الاعتقاد بأنه رحل، وأنها غسلت بالمطر الذي هطل فجأة ذكراه، تعود ليلتقيا عند العتبة، ويناديها باسمها الذي نقرأه للمرة الأولى في الرواية، فيظهر بآخر كلماتها، وكأنها عثرت على هويتها حين نطقه.

الرواية التي صدرت عن دار الآداب (2015) صممت غلافها الفنانة نجاح طاهر تصدرتها لوحة لها، وصورة لأرجوحة كمعادل بصري للعبة السرد (أضيفت صورة أرجوحة حقيقية عوضاً عن الرسم الأول، وكأن ذلك يأتي في سياق حاضر العولمة المصورة في مقابل الموروث التقليدي المرسوم) في رواية تفتح عالم النساء من زاوية المطبخ، لتدخـــلنا إلى عوالم من أحلام غيــمات تحاول أن تمطر باتجاه بستان الأمل.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى