يمنى العيد في متاهة الذات و الـ «أنا»

حين تتوغّل في قراءة سيرة يمنى العيد «زمن المتاهة» (دار الآداب)، تشعر برغبة ملحة في العودة إلى الجزء الأول منها «أرق الروح». لا تفكّر في السبب الذي يسوقك إلى الصفحة الأولى، بل السطر الأول، وهو تقديم بديع استهلت به سيرتها: «من أنا؟ هل أنا حكمت أم أنا يُمنى؟». كأنّ قراءة السيرة بجزئها الثاني لا تكتمل إلاّ على ضوء هذا السؤال المؤرق. كيف يمكن من لا يعرف «أناه» أن يحكي سيرته؟ من هنا نلتمس معنى المتاهة -وهي حاضرة في عنوان الجزء الثاني من السيرة-، حيث تضيع الكاتبة بين تعددية ذاتية/ نفسية (حكمت الصبّاغ ويمنى العيد)، وتعدّدية ثقافية/ مكانية (صيدا المحافظة، بيروت المنفتحة، باريس الحلم).

تُشكّل «زمن المتاهة» تكملة لحياة امرأة سبق أن أدهشتنا في «أرق الروح» بانفصامها الجميل بين ذاتٍ أصلية (حكمت صباغ) وأخرى مُستعارة (يمنى العيد)، إلاّ أنّ اللعبة الفنية تأخذ في السيرة الثانية شكلاً أوضح حين يدخل الصراع بين الاثنتين في صميم السرد، بعد أن تطغى شخصية يمنى «الثائرة» على شخصية حكمت «الهادئة».

المسألة الطائفية

في «أرق الروح»، تأخذ طفولة حكمت، التي منحها أبوها اسماً ذا وقع ذكوري، حيّزاً واسعاً من السرد. فتحكي عن مدينتها صيدا، عن عائلة محافظة تربّت في كنفها من غير أن تتبنّى أفكارها. تسرد الأحلام التي لازمتها، ومشاعر الغربة التي أحسّت بها في مدينة يتجاور فيها المسلمون والمسيحيون ولا يتخالطون. فجعلت من بيروت «المتخيَّلة» مدينة بديلة يُمكن أن تحقق فيها أمنية «كشف» الآخر و«الإنكشاف» عليه. لكنّ الغربة تتجدّد في بيروت بُعيد الانتقال من مدرسة «عائشة أم المؤمنين» (المسلمة) إلى «القديس يوسف للظهور» (المسيحية).

ولا ينتهي الشعور بالاغتراب في «زمن المتاهة»، إنما يتفاقم بعد أن تُصدم الصبية الحالمة بعاصمة نزعت سمة الوداعة والتعايش والانفتاح لتكشف عن قلوب صدئة نخرتها سوسة الطائفية والتعصب.

هكذا تصوّر يمنى مشاهد عايشتها خلال حرب أهلية دامية، لتتداخل بذلك سيرة الذات مع سيرة الوطن. «تهرب بيروت مني اليوم. لم يبقَ من بيروت التي عرفتها سوى صور في الذاكرة. كثير منها تحت الأرض، أو أنقاض جُرفت ورُميت في البحر» (ص41).

الحرب التي ترصدها يمنى العيد ليست جثثاً وموتاً ودماراً، بل هي مواقف إنسانية وصفتها بمشاعر الأم الخائفة، والزوجة المرتعدة، والعاملة القلقة. مواقف يُمكن كلّ قارئ أن يشارك بها. لكنّ الحرب التي هدّمت أحلامها ببناء وطن علماني قويّ موحّد، الحرب التي فرقت الإخوة وأحالتهم شِيعَاً وأحزاباً، ومن ثمّ قسّمت الجامعة التي ساهمت في تأسيسها، لم تُهادن إلاّ بين اسمين، أو ربما ذاتين متخاصمتين، هما حكمت ويمنى. «من هم الذين كانوا سيقتلونني؟ من هم الذين قتلوا بعد ذلك حسين مروة ومهدي عامل الشيوعيين؟ ثم من قتل الشيخ صبحي الصالح، رجل الدين المنفتح؟ لقد قتلوا، هم المجهولون، كثيرين ولكنّهم لم يقتلوني. لماذا؟ ربما لأني امرأة؟ ربما لأنّ يمنى ليست حكمت التي يعرفونها. هل كانوا سيقتلون حكمت لو عرفوا يُمنى؟ أنا اثنتان في هذه الحرب، نتساند، تحمي الواحدة منّا الأخرى…» (ص 97).

وسط هذه الأجواء، يتولّد لدى يمنى، التي سكنت مع زوجها نزيه في «بيت عين الرمانة الكبير» على ضفتي بيروت الشرقية والغربية، مشاعر الحنين إلى صيدا، التي حضنت طفولتها وأحلامها وبراءتها. «هذا البيت الموجود بين جناحي بيروت، قريباً من خطوط التماس، لم يعد كما كان في مساحة التلاقي والتلاقح والعناق جميلاً، بل صار في موقع الاقتتال والموت والدمار قبيحاً، ولم يبقَ أمامنا من خيار سوى العودة إلى بيت عبرا ( صيدا)» (ص 39).

تحطيم القواعد

اختارت الكاتبة والناقدة يمنى العيد، منذ البداية، سيرة مغايرة كسرت فيها الإيقاع الكرونولوجي الرتيب، وخالفت فيها كثيراً من المسلّمات في أدب السيرة. فالأحداث أو الذكريات المروية لم تعرض كلها بصيغة المتكلم، إنما جاءت عبر ضمير الغائب مرّة: «تتذكّر يمنى عصر ذلك اليوم الخريفيّ الذي عادت فيه متأخرّة إلى البيت… كانت تتأمّل فضاء هذا البيت الخاوي منتظرة عودة ابنتها مع أبيها…» (ص22)، أو المخاطب أحياناً «كفى يا يُمنى! يا أنتِ! يا المشحونة برغبة الولادة الأخرى لذاتك، ولادة تودّ أن تقطع مع زمن مضى ولا يمضي» (ص29)…

عمدت العيد إلى إقحام تقنيات روائية داخل سيرتها كالتقطيع والاسترجاع والاستباق، لتُقدّم سيرة تُزاوج فيها بين الخيال والواقع، ما أثمر عن عملٍ إبداعي يمحي الحدود بين أجناس الكتابة.

تستحق «الأنا» في سيرة يمنى العيد (بجزأيها الأول والثاني) أن تكون كوّة ندخل عبرها إلى عالمها الذاتي. فـ «الأنا» عندها، بخلاف معظم السِّيَر، هي «آخر» قد لا يصحّ وجوده أحياناً من غير أن ينفي ذاته، ما يذكرنا بمقولة سارتر «أنا ما لستُ أنا، ولستُ ما هو أنا»، كقولها: «هي التي أسمت نفسها يمنى». لقد اشتغلت العيد روايتها على أساس المقابلة بين «أنا» منفصمة بأسلوب يُذكّر إلى حدّ ما بانفصام «الأنا» عند ناتالي ساروت بين واحدة «ناضجة» وأخرى «طفلة»، على رغم اختلاف التجربتين.

في «زمن المتاهة» يُمكن القارئ أن يلحظ تطوراً في «أنا» الساردة بحيث تُعبّر هنا عن تنوّع في طبيعتها، إذ تبدو متفككة مرّة حدّ الشكّ بوجودها «أتذكر حياة مضت… ولم أعد أعرف لمن كانت»، وهاربة أحياناً «العودة إلى بيت الزمن الماضي الذي لا تودّين العودة إليه»، ومذنبة مرة «مازن، كاد يختنق عندما علقت قطعة نقود معدنية في حلقه، وكان طفلاً يلهو في غفوة مني»، ومرّات مغتربة «لم تألف تلك التي ليس لها بعد من يُمنى سوى اسمها وأحلامها، البيت الجديد» (ص 19).

تستخدم الكاتبة لغة التفاصيل الشخصية وتُداخل بأسلوب حيّ بين السرد بالفصحى والحوار بالعامية، ما يُضفي على السيرة جوّاً من العفوية والحميمية. وبينما تستثمر الساردة معارفها الأدبية واللغوية والنقدية، ظلّت بعيدة من الاستعراض المعرفي والثقافي، فكانت السيرة متميزة في بساطتها وعدم تكلّفها.

عرّفت يمنى العيد قارئها في «أرق الروح» على حكمت، الصبية الصيداوية الصامتة، ثمّ أكملت سيرتها في «زمن المتاهة» تاركة لها حرية السرد، كأنها بالكلام المتفجّر منها تُعوّض عن صومها الطويل. فكانت السيرة الخاصة بامرأة تعيش بين اسمين، أو لنقل حياتين، إحداهما موروثة والأخرى مُكتسبة، هي في الوقت عينه سيرة المكان (صيدا/ بيروت) والزمان (قبل الحرب وبعدها).

سيرة يُمنى العيد إنما هي سيرة الفرد الذي تبقى شهادته أقوى من كتب التاريخ ورجالاته. فلننتظر من حكمت الصباغ سيرة يمنى العيد الثالثة لعلنا نتعرّف أكثر إلى وطننا، زمننا، أو ربما ذواتنا. لم لا؟

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى