«يوميات غوانتانامو» … عن التعذيب في صيغته الأميركية

نادرون هم الذين لم يشاهدوا الصور المذلّة لسجناء غوانتانامو، عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في نيويورك، وهم يرسفون في أغلالهم المعدنية التي تقيّد أيديهم وأقدامهم وتبطئ من حركتهم، مرتدين بذلاتهم البرتقالية اللون التي أضحت في ما بعد لباس المحكومين بالإعدام عند «داعش». وعلى رغم بشاعة هذا الاستعراض الأميركي الإعلامي الذي تبثه التلفزة الأميركية منذ أعوام، فإن أي مشاهد لم يكن يدري ما كان يحدث خلف قضبان هذا السجن الذي ذاع صيته في العالم. ولا يدري ان البلاد التي عُرفت باستخدامها الوسائل الناعمة في التحقيق، تلجأ بالفعل إلى أكثر الوسائل خشونة وقسوة ضد خصومها. حتى منحنا المهندس الموريتاني محمدو ولد صلاحي فرصة التعرف الى أسرار هذا المعتقل من داخله، وما يدور فيه من مآس، والتعرّف الى الوجه الآخر للولايات المتحدة الأميركية، وتعاملها الفظ مع المعتقلين من العالم الثالث، من خلال يومياته الصادرة عن «دار الساقي» والتي دوّنها داخل السجن. ويومياته هذه خضعت لرقابة الاستخبارات الأميركية قبل نشرها، فشطبت منها ما اعتبرته تهديداً لأمنها. وطُبعت اليوميات كما هي مع الرقابة السوداء التي تغطي الكلام المشطوب.

يفاجئنا ولد صلاحي الذي اعتقل عام 2002 بتهمة تورطه المزعوم في أحداث نيويورك، وقرابته من ابي حفص الموريتاني احد قادة الهجوم على البرج، وبكونه ايضاً من المقاتلين الذين سبق أن تدربوا في أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي. يفاجئنا بالتشابه العميق بين السجن العربي والأميركي، مع تباين في الدرجات والأساليب القمعية المتبعة. وتبدو رواية صلاحي في مجملها إدانة لسياسة أميركا وشهادة على إخفاق عدالتها المزعومة.

المعسكر الاحتجازي في خليج غوانتانامو، يخضع فيه السجين إلى العنف الجسدي والعنف المادي. بيد ان التعذيب في غوانتانامو تعذيب «مقنن» يهدف إلى احباط السجين وليس إلى القضاء عليه، لأن ابقاءه على قيد الحياة هو لمصلحة مجريات التحقيق، واستفادة المحققين من معلوماته، ولو بعد حين. والفارق بين سجون العالم الثالث والسجن الأميركي، ان زمرة التعذيب الاميركية كانت مدربة أحسن تدريب على انتزاع الاعترافات من أفواه المعتقلين، إلى درجة انها كانت تقترف جرائمها «المثالية» بحقهم، من دون ان تترك اي دليل حسي واضح على أجسادهم، مهما كانت الوسائل المتبعة عنيفة.

وسائل التعذيب

ومن وسائل التعذيب بداية، وضع الأغلال في اليدين والقدمين، وإخفاء الرأس والوجه، أو وضع العصبة على العينين، ثم منع المعتقل من النوم ومن الطعام لفترة طويلة، وعدم السماح له بالتحدث مع الآخرين. وقضاء وقته كله في ظلام دامس، وإيقاظه للتحقيق معه في اي ساعة من الليل، وحرمانه من النظافة الجسدية، وجعله يبلع الماء المالح، ومنعه من الصلاة والصيام وقراءة القرآن، وابقاؤه واقفاً ومستعداً للاستجواب طوال اليوم، وإحداث جلبة خلف الجدران، حالما يدخل غرفة التحقيق لدبّ الذعر في أوصاله، ووضعه في مكان بارد جداً. وإرغامه على الجلوس في الحمام لبضعة ايام يأكل ويتبول ويتغوط تحت الماء. عدا ما يصيبه من صفعات ولكمات وشتائم وإهانات، وما يتعرض له من تحرش جنسي، حتى يغدو في حالة مزرية، تذكرنا بحسرة أن ما يجري في هذا المعتقل، لا يختلف البتة عن أوضاع السجون العربية والعالمثالثية ومعاملاتها الوحشية.

الغاية من مظاهر التعذيب والإكراه الجسدي والنفسي، هي تحطيم الروح المعنوية لدى المعتقل التي تصل احياناً إلى حافة الجنون. لاسيما لدى معتقل مثل محمدو ولد صلاحي الذي لم يشارك بهجمات نيويورك، وكان يعتبر نفسه بريئاً من الإتهامات التي لُفقت حوله. لذا كان يعيش بعد كل استجواب بانتظار إطلاق سراحه، لأنه يثق بالولايات المتحدة الاميركية التي تنادي بحقوق الانسان، وبأنها ستتخذ على ضوء ذلك قراراً بالإفراج عنه.

ويكشف هذا التحقيق المطوّل الذي استغرق سنوات عدة أسلوب المناورة عند المحققين الاميركيين، الذين يريدون من رجل بريء يستجوبونه، أن يقر بذنب لم يقترفه. هو صراع عقلي بين الطرفين وصراع ارادات، ومحاولة من الأميركي لكسر مقاومة المتهم الموريتاني ولد صلاحي الذي يعاني كل هذا الألم النفسي والجسدي. وهو إزاء ذلك يطلب من القارئ ان يضع نفسه في مكانه، فيعترف بعمل لم يقم به، وأن يختلق قصة غير حقيقية، وأن يسرد تفاصيلها، ويؤكدها بإيراد القرائن والأدلة الدامغة، مورطاً نفسه في جرائم مدمرة لم يتورط بها. لكن ولد صلاحي ظل حتى اللحظة الأخيرة حسن الظن بالسياسة الاميركية وبأنها لن تخيب أمله. واللازمة الاساسية التي كان يرددها في كل جلسة استجواب هي مطالبة المحققين بإظهار السبب الحقيقي لحجزه. مع العلم بأن ستة من أجهزة المخابرات العربية والأميركية، كانت تشترك في استجوابه في غوانتانامو، وقبلها في الأردن وموريتانيا.

محاولة عقيمة

لكن الأسئلة التي كانت تُطرح عليه ظلت هي ذاتها طوال ثلاث سنوات. وهذا التكرار المرير لأسئلة ملحاحة، ليست إلا ضرباً آخر من ضروب التعذيب النفسي، ومحاولة عقيمة لإقناعه بجريمة لم يقترفها، تحت وطأة تسليمه لسلطات بلده، وما ينتظره حينذاك من عذاب، حيث تستفيد اميركا من السمعة التي كونتها في أذهان العالم عن احترامها حقوق الإنسان، في حين كان محققوها يمارسون على المعتقلين كل صنوف الكذب والمراوغة والوسائل الأكثر مداهنة في التحقيق. وكانوا يلفقون الرسائل لصلاحي ويقنعونه بأنها وصلت من عائلته، أو يعرضون عليه أشرطة فيديو عن هجمات نيويورك، وإيهامه انه هو نفسه من كان يدير العملية.

لماذا أنا هنا؟ هي العبارة التي لا يملّ ولد صلاحي من تكرارها أمام المحققين كمقدمة منطقية للبحث عن مصيره. وهو يتفهم غضب الولايات المتحدة بعد أحداث ايلول وخيبتها من الهجمات الإرهابية. لكن اعتقال الأشخاص الأبرياء وجعلهم يعانون من الألم والظلم بحثاً عن اعترافات كاذبة، لن تساعدهم البتة. والصراع هو بين ولد صلاحي والمحققين الذين لا يريدون سماع الحقيقة، أو تقديم شرح مقنع عن سبب وجوده في المعتقل وحرمانه من الحرية. لكن الألم المضني الذي عاناه في نهاية المطاف، جعله يعترف كاذباً ببعض الوقائع لكي يرفع عنه نير العذاب. وكان اعتقد بتقدير خاطئ ان الأسوأ قد مضى، لذا لم يبالِ كثيراً بالفترة الزمنية التي سيستغرقها مع الأميركيين ليكتشفوا انه ليس الشخص الذي يبحثون عنه، وهذا ما لم يحدث.

وما كان يحزنه أيضاً هو رضوخ بلاده موريتانيا للإملاءات الأميركية، وتخليها عن استقلالها وواجباتها تجاه رعاياها. في حين كانت الولايات المتحدة عقب احداث ايلول قد وضعت كل إمكاناتها ونفوذها في دول العالم الثالث، ومن بينها موريتانيا، لاعتقال عدد من المواطنين، وزجهم في السجون بتهمة الإرهاب، أو تسليمهم لها، او اشرافها على التحقيق معهم، وما يتبع ذلك من استخدام آليات التعذيب لانتزاع الاعترافات الصحيحة او غير الصحيحة. وهكذا عاش محمدو ولد صلاحي مأساة مزدوجة. فبلده لا يدافع عنه، وأميركا تظلمه وتتهمه من دون دليل. وعليه دعا ولد صلاحي الرأي العام العالمي، إلى اجبار الولايات المتحدة على فتح تحقيق حول كل ما اقترفته من تعذيب وجرائم حرب. لكنه لم يعدم مع ذلك، رؤية من يغامر بحياته للوصول إلى اميركا، من دون ان يقتنع منه بأن ما نشاهده في التلفزيون ليس الصورة الحقيقية للحياة في أميركا او الغرب.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى