
لطالما كانت الهجرة القسرية من أبرز وجوه المأساة السورية خلال العقود الماضية، حيث دفعت السياسات القمعية التي انتهجها نظام الأسد، وما رافقها من عنف ممنهج واضطهاد سياسي وأمني، ملايين السوريين إلى الهروب من بلدهم تحت مسميات مختلفة: من لجوء سياسي وإنساني، إلى اغتراب اقتصادي وتعليمي واجتماعي. وتعددت الأسباب، لكن القاسم المشترك بينها جميعًا كان الخوف من سطوة النظام، والقلق على المصير، والبحث عن فسحة أمل خارج حدود وطن يُفترض أن يحتضن أبناءه لا أن يلفظهم.
لكن، في مفارقة عميقة المعاني، بدأت تتوالى في الآونة الأخيرة أخبار مبشّرة عن عودة أعداد متزايدة من السوريين إلى بلادهم، عودةٌ طال انتظارها، وتحمل في طيّاتها رمزية بالغة الدلالة لنهاية مرحلة مظلمة، وبداية عهد جديد يتطلع فيه السوريون إلى إعادة بناء ما هدمه الاستبداد، لا في العمران فحسب، بل في النسيج الاجتماعي والكرامة الإنسانية المهدورة لعقود.
ومن التهجير إلى العودة في رحلة كفاح وصمود فإن الحديث عن العودة لا يمكن أن يُفصل عن الجذور العميقة للتهجير الذي تعرض له السوريون. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، اتبع النظام سياسة التخويف والبطش، خصوصًا تجاه النخب المثقفة والكوادر المهنية وأصحاب الرأي. ثم جاءت الثورة السورية عام 2011 وما تلاها من رد دموي عنيف، ليضيف موجة جديدة من اللاجئين والنازحين، وصلت أعدادهم إلى أكثر من 6 ملايين خارج البلاد، و7 ملايين في الداخل، حسب تقارير الأمم المتحدة.
لذلك، فإن أي عودة حقيقية اليوم لا يمكن أن تُقرأ بمعزل عن تغيرات جذرية في الواقع السوري، سواء من جهة تراجع قبضة النظام، أو من جهة إعادة تشكيل بنية الدولة والمجتمع بطريقة أكثر انفتاحًا وتسامحًا وعدالة. وما نشهده حاليًا من مؤشرات لعودة المهجّرين، قد يكون ناتجًا عن ديناميكيات جديدة بدأت تتشكل في المشهد السوري ، منها محاولات للمصالحة الوطنية، ومنها الانفراج النسبي في بعض المناطق، إضافة إلى تطمينات تُمنح للعائدين بعدم التعرض لهم أو ملاحقتهم.
فعنان الأمل الذي يتجدد ولكن بتحديات قائمة رغم معظم الأجواء الإيجابية التي ترافق بعض أخبار العودة، يبقى من الضروري التعامل معها بواقعية.
فبنية الدولة ما زالت هشّة، والمؤسسات الأمنية والقضائية لم تشهد بعد إصلاحًا حقيقيًا يضمن للمواطن حقوقه. كما أن عمليات التعفيش والاستيلاء على الممتلكات والاعتقالات العشوائية لا تزال تسجل في بعض المناطق، ما يثير القلق بشأن مصداقية التطمينات المقدمة للعائدين.
غير أن رغبة السوريين في العودة إلى وطنهم، رغم كل هذه التحديات، تعبّر عن عمق الانتماء والإصرار على تجاوز الماضي وبناء المستقبل.
فالوطن، رغم ما مر به، يبقى المكان الذي تنتمي إليه الذاكرة والهوية والحنين. والعودة إليه هي فعل مقاومة في حد ذاته، ورفض للمنفى الدائم والشتات القسري.
وخاتمة العودة كفعل وطني جامع فإن عودة السوريين من منافيهم ليست فقط حدثًا إنسانيًا أو اجتماعيًا، بل هي أيضًا حدث سياسي بامتياز، يدل على تغيّر في موازين القوى، ويعكس تطلعًا جماعيًا للخروج من دائرة الاستبداد إلى فضاء الحرية والكرامة. وهي بداية إعادة بناء وطن جُرِّد من أهله، لكنها تتطلب ضمانات حقيقية، وعدالة انتقالية، ومحاسبة عادلة لكل من تسبب في هذه الكارثة الإنسانية.
لقد حان وقت العودة لا فقط إلى الأرض، بل إلى الحلم السوري الكبير بوطن حر، آمن، وعادل.
فالحرية اثمن مافي الوجود لذلك فإن ثمنها باهظ .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر