انتظرنا الحرب في مضيق هرمز فنقلها بومبيو فجأةً إلى العِراق..
بات من الصّعب علينا، وربّما الكثير من المُراقبين مِثلنا، أن نُلاحق جبهات التوتّر المُحتملة في ظِل التّحشيد العسكريّ المُتصاعد بين إيران والولايات المتحدة، فبعد إرسال حامِلة الطّائرات لينكولين، وتخريب أربع ناقلات نِفط عملاقة في ميناء الفُجيرة الإماراتي، وهُجوم بسبع طائرات حوثيّة “مُسيّرة” على مضخّات نفط سعوديّة قُرب الرياض، دخلت الجبهة العِراقيّة على الخط، وطار مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكيّ، وأحد الصّقور التي تقرع طُبول الحرب ضِد طِهران إلى بغداد حامِلًا “سيديهات” تتضمّن صُورًا تُؤكّد أنّ قوُات “الحشد الشعبي” المدعومة من إيران نصَبت شبكة صواريخ قُرب القواعد الأمريكيّة على الحُدود السوريّة استعدادًا لضربها.
انتظرنا المُواجهة المُفترضة في مضيق هرمز، ليَأتي بومبيو ويقول لنا، وللسيّد عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي، بأنّ الخطر على الولايات المتحدة ومصالحها وقوّاتها يكمُن في العِراق (6 ألاف جندي)، ويحمِل رسالتين في الوقت نفسه، الأُولى تهديد بأنّ بلاده، أيّ أمريكا، سترُد على أيّ هُجوم على قوّاتها بقوّةٍ ودون الرّجوع للحُكومة العِراقيّة، والثّانية عرض على إيران بالتّفاوض.
الإدارة الأمريكيُة سحبت مُعظم طاقم سفارتها في بغداد تحسّبًا لحُدوث هجَمات، وطلبت من رعاياها عدم السّفر إلى العاصِمة العِراقيّة، وتُؤكّد أنّها تلقّت معلومات بأنّ هُناك مخاطر مَبعثها إيران تُهدّد مصالحها، تمامًا مثلما فعلت الشّيء نفسه عندما تعرّضت سفارتها في المِنطقة الخضراء الأضخم في العالم، وقنصليّتها في البصرة لهُجومٍ بالصُواريخ في أيلول (سبتمبر) الماضي، فقلّصت الأُولى، وأغلقت الثّانية خوفًا ورُعبًا.
أمريكا أرسلت أكثر من 300 ألف جندي إلى العِراق لاحتلاله، وخسِرت 7 تريليونات دولار وثلاثة آلاف جندي من جرّاء هذا العُدوان الذي استند إلى أكاذيب ومعلومات مُزوّرة، ومع ذلك لم يعد في مقدور وزير خارجيّتها، أو رئيسها، زيارة هذا البَلد في وضَح النّهار، ويتسلّلان إليه مِثل القِطط المذعورة، ترى كيف سيكون الحال إذا هاجمت إيران القارة بعدد سكّان يزيد عن 80 مليونًا، وغابات من الصّواريخ ليس لها سقفًا، وربّما قنابل نوويّة بِدائيّة؟
لا نعرف مدى صحّة هذه المعلومات الأمريكيّة الخطيرة التي حملها بومبيو للقِيادة العِراقيّة، ولكن ما نعرفه أمران، الأوّل، أنّ السيد عبد المهدي لا يستطيع حماية القوّات الأمريكيّة، أو “لجم” أيّ عمل يُمكن أن تُقدم عليه فصائل الحشد الشعبي ضدّها، لأنّه لا يملُك السّلطة، أو القُدرة في هذا المِضمار، وبومبيو ذهب إلى العنوان الخطأ، فهذه الفصائل التي يبلُغ تِعداد قوّاتها 150 ألفًا، ومُجهّزة بمَعدّات ثقيلة، تُعتبر أقوى من الجيش العراقي نفسه
والأمر الثّاني، أنّ معلومات بومبيو عن خطر هذه الفصائل على المصالح الأمريكيّة لم تُقنِع أحدًا بِما في ذلك الحُلفاء في أوروبا، فقد أكّد الجِنرال كريس غيكا البريطاني، المُتحدّث باسم التّحالف الدولي في العِراق وسورية “أنّ مُستوى التّهديد الذي تُشكّله هذه الفصائل المُوالية لإيران ضَد القوّات الأمريكيّة لم يتصاعد” أيّ أنّه يقول وباختصارٍ شديدٍ لبومبيو: “أنت كاذب”.
الرئيس ترامب الذي أرسل حاملات الطّائرات والسّفن والقاذفات العِملاقة إلى الخليج لإرهاب الإيرانيين بات حتّى الآن هو المذعور الذي لا يعرِف من أين سيأتيه ولقُوّاته الخطر، والأهم من ذلك أنّه لم يعُد يتحدّث مُطلقًا عن المرحلة الثّانية من العُقوبات التي فرضها على طِهران، أيّ صفر صادرات نفطيّة، وبات يُرسل الوسطاء لاستِجداء حلٍّ تفاوضيّ.
ترامب قال إنّه سيرُد بقوّةٍ على أيّ عدوان تتعرّض له أمريكا ومصالح حُلفائها في المِنطقة، وها هُم الحُلفاء يتعرّضون لهُجومين في غُضون يومين، الأوّل في الفُجيرة الإماراتيّة، والثّانية، في مُحافظتيّ الداوودية وعفيف السعوديّتين، ولكنّه لم يرُد ويُرسل وزير خارجيّته إلى العِراق لتأمين أرواح قوّاته، وفُرصه الانتخابيّة لدورةٍ رئاسيّةٍ ثانية، لأنّ مقتل جنديّ أمريكيّ واحد في العِراق يعني انهيار طُموحاته في هذا المِضمار.
جميع الدول الأوروبيّة نأت بنفسِها عن هذا التّحشيد الأمريكيّ للحرب ضِد إيران، ولم ينجح الرئيس ترامب في إقناع دولة واحدة للانسِحاب من الاتّفاق النووي الإيراني، وإذا قرّر الذّهاب إلى الحرب فِعلًا، فلن يجِد إلى جانبه إلا دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعرب النّاتو السني، أو من تبقّى منهم.
ترامب، وبمُتابعة سريعة لتطوّرات الأزَمَة، يخرُج من هذه المُواجهة مهزومًا وفاقِد المصداقيّة، ودون أن يُطلق رصاصةً واحدةً، فالحُشود العسكريّة لم تُرهِب إيران، الأمر الذي سيُضعف مواقفه وحُلفاءه، خاصّةً إذا انتهت الأزَمَة بالمُفاوضات.
لا أحد يُريد الحرب في الشّرق الأوسط، باستِثناء الثّلاثي بومبيو وبولتون ونِتنياهو الذين يُحرّضون عليها، وأيّ خطأ أمريكي سيجعل إدارة ترامب، وأمريكا عامّةً، تدفع ثمنًا باهِظًا، ماديًّا وبشريًّا، ونجزِم بأنّ جُنديًّا أمريكيًّا واحِدًا من تِلك الموجودة في العِراق وسورية لن يعود حيًّا إلى بلاده.. ناهيك عن أولئك الذين يُرابطون فوق السّفن وحامِلات الطّائرات، ونحن لا نتحدّث هُنا عن الحُلفاء الخليجيين الذين سيُشاركون في هذه الحرب، أو سيكونوا ميدانها، فهذا تحصيلٌ حاصِلٌ، وسيُترَك أمرهم للحوثيين.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية