رحلة إلى التاريخ : أمير الشعراء أحمد شوقي في دمشق!

هي دمشق كعادتها ، مدينة التاريخ والحضارة ، عندما تنظر إليها من فوق، أي من جبل قاسيون تخالها ترسم لوحة تاريخ لمختلف المراحل، وفي كل مرحلة ترك التاريخ أثرا فيها يمكن أن نسمع حكاية أو حادثة لابد للتاريخ أن يحكي عنها ..

ولمدينة دمشق أيضا سمعة تحدث عنها الكثير من الرحالة والمؤرخين، فقد عرف عنها أن تحتفي بزوارها وضيوفها، ويتجمع أهلها في الحفاوة لأن احترام الضيف من احترام السكان للمدينة نفسها .. ومن تلك الحكايات، ما تستعيدها الحارات والساحات والأمكنة العامة، فكثير من زائري مدينة دمشق القديمة يعرفون أن في قلب النسيج المعماري للحارة الشعبية القديمة وتداخلها مع الأسواق الكبيرة التي تضج بالحيوية والنشاط ، في قلب هذا النسيج ثمة أمكنة تحمل من الذكريات والمحطات التاريخية أكثر من المعتاد ..

المجمع العلمي العربي ، واحد من هذه الأمكنة التي تشهد رفوف مكتباته على أجمل ماتركه السوريون للتاريخ والأدب والثقافة ، فقبل نحو مائة عام ، أنشئ المجمع العلمي العربي على مقربة من المسجد الأموي في منطقة كانت فيها مدينة دمشق تزهو بالمكتبتين الظاهرية والعادلية وهما مكتبتان من أهم المكتبات العربية المعروفة في العواصم المشرقية ..

لنتعرف أولا على المكتبة العادلية، في المكتبة العادلية تبرز أمامنا قصة مجمع اللغة العربية بدمشق أو المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو المجمع العربي الذي كان يرتاده أبناء دمشق ومثقفوها . إنه من الأمكنة الخالدة في سورية ، وقد سجل في يوم من الأيام أحداثا ثقافية هامة، وترك آثارا خالدة لاتنسى .. شهد هذا المكان أي المجمع العلمي العربي بدمشق، واحدة من الأنشطة الثقافية التي ظلت في ذاكرة المدينة كحدث ثقافي هام في القرن العشرين، وحفظت صوره حتى يومنا هذا، وذلك عندما احتفلت دمشق بضيفها العربي المصري أحمد شوقي الملقب بأمير الشعراء ..

ذكرت المصادر التي تناولت حياة أمير الشعراء بأنه زار دمشق مرتين ، ولكننا لم نعثر على صور زيارته الأولى ، أما زيارته الثانية فقد كانت في الأول من شهر آب 1925 وكان برفقته المطرب الصاعد في ذلك الوقت محمد عبد الوهاب ، وقد سارع وجهاء وأعيان المدينة إلى إقامة الحفلات والولائم لهما لعل أشهرها الحفلة التي أقامها الشاعر فخري البارودي .‏

أقيمت حفلة فخري البارودي في منزله الكائن في الشابكلية بحي القنوات، وقد دعي إليها عدد كبير من الأدباء والشعراء والفنانين ووجهاء البلد ، عرف من المدعوين الشاعر شفيق جبري والمطرب المصري (السيد الصفتي ) ، أما في عصر يوم السبت الأول من شهر آب 1925 وفي المجمع العلمي العربي بدمشق أقيم حفل تكريم لأمير الشعراء احمد شوقي بمناسبة زيارته لدمشق وشارك فيه أدباء وأعيان دمشق وكثير من الوجوه الثقافية في سورية المعروفون في ذلك الوقت .

وقد ألقيت كلمات الترحيب بالشاعر المصري الكبير ، ومن بين تلك الكلمات كلمة الشاعر السوري شفيق جبري . فازدحمت قاعات المجمع وباحاته بالحضور الذين وفدوا لحضور الحفل وللتمتع بمرأى ضيف سورية الكبير ..

بدأ الحفل رئيس المجمع الأستاذ محمد كرد علي بتقديم أحمد شوقي للجهور وألقى الشاعر السوري شفيق جبري قصيدته الكبرى:‏

قم في ديار بني أمية باكياً‏ في الشام إن سمح الهوى أطلالها‏
يا شاعرا ً والدهر بعض رواته‏ باتت عليك تحاسد الأقوام‏
للعبقرية في قريضك طامع‏ وعليه من أي النبوغ وسام‏

في حفل استقبال أمير الشعراء أحمد شوقي في هذا المكان تحدث الشيخ فارس الخوري أحد أهم رجالات دمشق السياسيين في دمشق آنذاك ، وأفاض في التحدث عن شوقي وعن شعرة إفاضة رائعة طيبة ، ثم ألقى الأستاذ فخري البارودي زجلاً رقيقاً مرحبا بأمير الشعراء، ثم اعتلى المنبر الأستاذ نجيب الريس صاحب جريدة القبس لينوب عن أمير الشعر في إلقاء قصيدته .كان أمير الشعر لا يلقي شعره بنفسه بل كان يدفعه إلى آخرين يتلون عنه ، فضج الحفل بالتصفيق والهتاف طالبين آن يروا الشاعر فلبى الطلب ووقف إلى جانب الأستاذ الريس حتى أتم إلقاء القصيدة :‏

قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا‏
مشت على الرسم أحداث وأزمان‏
لولا دمشق لما كانت ( طليطلة )‏
ولا زهت ببني العباس ( بغدان ) ‏
جرى وصفق يلقانا بها ( بردى )‏
كما تلقاك دون الخلد رضوان ‏

عرفت قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي ألقيت في هذا المكان بدمشقية أحمد شوقي، وظلت إلى الآن تردد على أفواه المثقفين والعاديين من أبناء سورية والوطن العربي ..

أقرت القصيدة في المناهج التربوية، وأضحت واحدة من المعلقات الشعرية العربية عن مدينة دمشق، وقد رأى فيها الشعراء والنقاد الكبار آية من آيات هذا الشاعر العربي العظيم ،استعار لها قوة المتنبي في معانيه وصفاء (البحتري) في ألفاظه ، فكأنما جمع فيها عبقريتين شعريتين تاريخيتين هما ، عبقرية المتنبي وعبقرية البحتري!

كانت قصيدة أحمد شوقي تليق بدمشق كمدينة عربية خالدة، أحبها العرب جميعا وأنشد لها الشعراء ، وغنى لها المغنون ..

عرف الشاعر العربي أحمد شوقي بأمير الشعراء ، وهو أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي ، ولد في القاهرة عام 1868 وتلقى تعليمه في مدارسها ، ثم انتسب إلى قسم الترجمة بمدرسة الحقوق ، ثم سافر ليدرس الحقوق في فرنسا على نفقة الخديوي توفيق بن إسماعيل. أقام في فرنسا ثلاثة أعوام حصل بعدها على الشهادة النهائية في 18 تموز عام 1893. نفاه الإنجليز إلى إسبانيا واختار المعيشة في الأندلس سنة 1914م وبقي في المنفى حتى عام 1920م. لقب بأمير الشعراء في سنة 1927. و توفي في 23 أكتوبر 1932 و خلد في إيطاليا بنصب تمثال له في إحدى حدائق روما.

خلف أمير الشعراء عدة دواوين شعرية وعددا ً من المسرحيات الشعرية والنثرية والملاحم الشعرية ، وغنى قصائده عدد من المطربين العرب أشهرهم المطرب محمد عبد الوهاب.‏

سحر شعر شوقي الألباب واستولى على مسامع الشعراء والأدباء وذواقي الشعر في العالم العربي في زمن لم تكن فيه وسائل الاتصال قد انتشرت في تلك البلاد إلا أوراق الصحف والمجلات والكتب ،‏ اشتهر شعر أحمد شوقي شاعراً يكتب من الوجدان في كثير من المواضيع ..

لم ينس شوقي عشقه لدمشق وذكرياته فيها ، وقد فجع بما أصابها أيام العدوان الفرنسي عليها عام 1926 فهتف متوجعا ً :‏

سلام من صبا بردى أرق‏ ودمع لا يكفكف يا دمشق‏
دم الثوار تعرفه فرنسا‏ وتعلم أنه نور وحق‏

لقد تجلت في هذه القصيدة عبقرية شوقي الشعرية ووطنيته وإنسانيته وعظمة الشعر الذي تربع شوقي يوما ً على عرش إمارته . وأيضا خلد الذاكرة الثقافية والوطنية السورية هذه القصيدة وجعلتها واحدة من أروع القصائد التي تحفظها الأجيال ويرددها الشعب دائما !

أما بالنسبة للمجمع العلمي العربي فمع بداية تشكل الدول العربية إثر الثورة العربية الكبرى عام 1916 بدأت أولى المحاولات الرسمية لتحقيق هذه الغاية، فمع إعلان الحكومة العربية في دمشق في الخامس من تشرين الأول 1918 واجهت الإدارة العربية مشكلة جهل الموظفين العرب في الإدارة قواعد اللغة العربية، وعدم توافر المصطلحات الإدارية بالعربية، وكان الحل بإنشاء مؤسسة باسم “المجمع العلمي العربي” مقره المدرسة العادلية في مدينة دمشق القديمة وقد أنشئ فعلا في الثامن من شهر جزيران 1919، وكانت أولى مهامه العناية بأمر اللغة العربية، ونشر الثقافة بين الموظفين، واستبدال المصطلحات العربية بالتركية في الجيش ودوائر الحكومة وإيجاد المصطلحات وتقرير أفصح الأساليب التي تليق بحكومة عربية واعدة.

ظل المجمع يعمل تحت اسم “المجمع العلمي العربي” حتى تمت توحيد تسميته مع باقي المجمعات العربية فأصبح اسمه “مجمع اللغة العربية” في دمشق عام 1967م، في العام 1980 انتقل المجمع إلى مقره الجديد في حي المالكي بدمشق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى