أحجية الموصل وتمدد “داعش” (عامر راشد)

 

عامر راشد

سقوط محافظة نينوى العراقية، ومركزها مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية، بيد مقاتلي تنظيم "داعش"، دون مواجهات مع الجيش العراقي، صدمة غير متوقعة بكل المقاييس وسيكون لها انعكاسات سلبية كبيرة على مستقبل العراق والمنطقة برمتها
عملية جس النبض التي بدأها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، بالهجوم على مدينة سامراء، سرعان ما تطورت إلى هجوم شامل ومباغت على محافظة نينوى، التي أصبحت -ومركزها مدينة الموصل- في قبضة مقاتلي التنظيم، الذين تمددوا إلى مناطق أخرى في محافظتي صلاح الدين وكركوك المجاورتين، حيث سيطروا على ناحيتي سليمان بيك والصينية في صلاح الدين، وعلى قضاء الحويجية ونواحي الرشاد والرياض والزاب والعباسي وينكجا في محافظة كركوك.
كل ذلك وقع خلال ساعات قليلة دون مواجهات تذكر مع وحدات الجيش العراقي المتمركزة في هذه المناطق.
رئيس البرلمان العراقي، أسامة النجيفي، أكد بعد ساعات قليلة من هجوم مقاتلي "داعش" أن محافظة نينوى أصبحت تحت سيطرتهم بالكامل، محملاً المسؤولية لقادة الجيش في المحافظة، الذين حسب ما أفاد به غادروا مواقعهم دون التصدي لمقاتلي "داعش". بينما أعلنت الحكومة العراقية التعبئة العامة، وتعهدت بالعمل على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وخططها.
إن ما سبق يطرح على المستوى العملياتي المباشر العشرات من علامات الاستفهام، أولها كيف أمكن لبضع مئات من مقاتلي القاعدة، وفي أكبر التقديرات بضع آلاف بعد وصول تعزيزات لهم، أن يحققوا مثل هكذا اختراق باحتلال ثاني أهم محافظة وثاني أكبر مدينة عراقية. ولماذا لم يواجه الجيش العراقي الدفعات الأولى من المهاجمين، ولم يسارع إلى قطع خطوط إمدادهم. وما هو تفسير انهيار وحدات الجيش هناك وذوبانها كالملح خلال وقت قياسي قصير. وهل ما جرى يكشف عن قوة لتنظيم "داعش"، لم تكن التقديرات الاستخباراتية دقيقة في تقييمها، أم أن المشكلة تكمن في ضعف الجيش العراقي وليس قوة "داعش"؟
الإجابات المنطقية على الأسئلة السابقة من الناحية العسكرية، والتي تتفرع عنها عشرات الأسئلة، تقطع بأن تنظيم "داعش" كسب معركة ما كان لها أن يكسبها، بالنظر إلى الميزان العسكري بين مقاتليه ووحدات الجيش العراقي في محافظة نينوى وجوارها. وبأن الانهيار المعنوي الذي أصاب وحدات الجيش لا يمكن تفسيره موضوعياً بالقياس إلى تناسب القوى، فتلك الوحدات كان بإمكانها على الأقل أن تخوض معارك ضارية مع المهاجمين وتعيق تقدمهم. 
ولعله من العبث أن نغرق في البحث عن تفسيرات لما وقع من منظور عسكري صرف، فما يجري اليوم في العراق هو نتاج سنوات الاحتلال الأمريكي للعراق، وسياساتها التي انتهجها لهدم بنية الدولة العراقية، بدءاً من تفكيك الجيش العراقي، وبناء نظام سياسي جديد يقوم على المحاصصة الطائفية والإثنية، وإثارة النعرات على مختلف أنواعها بين أبناء الوطن الواحد، عملاً بما يسمى نظرية "الفوضى الخلاقة"، لاحتواء المنطقة، وإعادة رسم خارطتها الجيوسياسية، لربطها بعجلة التبعية للولايات المتحدة الأمريكية.
وتتحمل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الاحتلال الأمريكي مسؤولية ما وصلت إليه أوضاع العراق، بفعل سياساتها التي ظلت بعيدة عن متطلبات مصالحة وطنية حقيقية، وإعادة بناء الدولة العراقية على أرضية وطنية جامعة لكل مكونات الشعب وحافظة لحقوقها ومصالحها المشتركة. مما استثار وكرَّس النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية، التي نمت على هامشها ظواهر إرهابية متطرفة مثل تنظيم "داعش"، الذي بات يقدم نفسه كممثل للمعارضة السنية في العراق، وسبق ذلك ظواهر لا تقل تطرفاً عنه ادعت تمثيلها للشيعة، وأدمج جزء كبير منها في تركيبة الجيش والأجهزة الأمنية.
ودون أدنى شك، لقد أثبتت الوقائع أن الظواهر المتطرفة، بصرف النظر عن هويتها المذهبية أو الطائفية، أعجز ما يكون عن امتلاك حاضنة شعبية واسعة، وأن ما حققته من مكاسب يرجع إلى سلبية الحراك الشعبي العراقي جراء ما أصابه من إحباط جراء ممارسات النخب السياسية الحاكمة، والأداء الحكومي الغارق في مستنقع المحاصصة الطائفية والفساد والمحسوبية، باعتراف أطراف رئيسية في الائتلافات الحكومية على مدار السنوات الماضية.
لذلك إن التصدي لظواهر متطرفة، مثل تنظيم "داعش"، يجب أن ينطلق من مراجعات سياسية جادة، معنية بها الحكومة وكل القوى الحزبية العراقية، فالحل لا يمكن أن يتحقق من مدخل اعتماد معالجات أمنية- عسكرية مجردة، بل يجب أن تبنى هذه المعالجات على رؤى سياسية جديدة تغادر حيز المصالح الفئوية الضيقة، كجزء من مهمة أشمل تهدف إلى إعادة بناء الدولة العراقية على أسس صحيحة، قبل فوات الأوان.
وتجربة العراق بعد الاحتلال الأمريكي، والعديد من التجارب التي سبقتها ولحقتها، تؤكد أن الحلول الأمنية تفتح بوابة حرب أهلية طائفية، بينما إذا ضبطت في سياق حلول سياسية تستطيع أن تعزل الجماعات المتطرفة، وقد جرب الحل الأمني المجرد في العراق عام 2006 وأدى إلى حرب طائفية لم تتراجع حدتها إلا بعد ثلاث سنوات.
وفي إطار مكافحة التنظيمات المتطرفة ككل، لابد من وجود رؤية إقليمية ودولية موحدة، وتضافر الجهود في مقاومتها، لأن هذه التنظيمات باتت تشكل خطراً داهماً عابراً للحدود ويهدد الجميع.
وحتى بافتراض عدم مقدرة مقاتلي "داعش" على الاستمرار في الإمساك بالمناطق التي سيطروا عليها في العراق، وخسارتهم لمناطق في قتالهم ضد باقي فصائل المعارضة المسلحة في سورية، إن استيلاءهم بسهولة على محافظة عراقية كاملة في غضون ساعات قليلة يدل على قدرات عسكرية غير عادية لدى "داعش"، تسليحاً وتخطيطاً، ونزوع قادة هذا التنظيم نحو امتلاك كيان جغرافي يكون منطلقاً لأنشطة التنظيم الأم، تنظيم "القاعدة"، بما سيفتح بوابة جهنم على كل شعوب المنطقة.
وليس مهماً فهم أحجية سقوط محافظة نينوى ومدينة الموصل من الناحية العسكرية بمقدار أهمية استيعاب الدروس السياسية التي أعادت التأكيد عليها، فالشعوب التي تثلم فيها روح الوحدة الوطنية، وتعتل بالنعرات والممارسات الطائفية والمذهبية والإثنية، تفقد حصانتها أمام نشوء ظواهر إرهابية متطرفة، تهدم كيان الدولة والمجتمع.

وكالة أنباء موسكو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى