كتاب الموقعنوافذ

تبرع بقلب فاتح اللون

تبرع بقلب فاتح اللون

 ” إلى تلك الفتاة في ذكراها العشرين”

“ألم يخلق الله القلب لهذا الغرض بالذات : أن يبعث، من الموت، الأعزاء ويعيد إليهم الحياة؟”
…. وكأن المقصود استيداع القلب ذكرى من نحب، بعد أن يكونوا قد ابتعدوا ولا سبيل، مرة أخرى، إلى لقائهم. وحيث لا تكف الحسرات عن التوالد، في مختلف فصول السنة وفصول العمر البشري، ثم حين تراكمت الحسرات، واندفنت في طبقات الأرض، جيلاً وراء جيل… جيل مفقود، وجيل فاقد. ألم تتحول هذه الكمية من الحسرات، إلى تلك الكمية من الأغاني والأناشيد ( المناشدات) التي تفتت الصخر؟!
كنت أعرف قلب تلك الفتاة كما لو أنه وردة في يد بستاني، يحاول استيلاد فصائل من هذا النوع النادر.
كان قلباً يرفّ على الآلام كفراشة غلى الزهور، ويعيد صوغ الدروب  إلى الحب، كقائد للضياء. كان قلباً تبدو حلاوته، وهو في مخبئه السري، سائلة كالعسل الفائض من خلاياه.
إنه القلب الساذج البريء الذي تحدث عنه الهندي الأحمر: ” كان قلبي حلواً وعذباً، إلى درجة أن كل من مرّ بي مدّ لي لسانه.”
قبل موتها، قالت، في المشفى، جملتها الأخيرة والوحيدة : “تبرعوا بقلبي إلى أحد ما…انكسر قلبه.”
وهكذا أصبح قلبها في صدر فتى في العشرين، ينط في سنواته القادمة الطويلة السعيدة، بقلب فتاة نزلت إلى حفرة الغياب الطويلة السعيدة (من يدري؟) ” فكل ماض كان مستقبلاً… في يوم من الأيام!”
كانت أم الفتاة، ترقب، في ألم معروف لدى المتألمين، عملية الانزياح البسيطة من قلب في صدر يموت إلى صدر يحيا. وعند الانتقال من نبضة أخيرة هناك إلى نبضة أولى هنا… كفت المرأة عن النحيب! وغادرت المشهدين  : الحياة والموت!
ذات يوم ، وبعد عشرين عاماً، زرت عائلة الفتاة.
لمحت صورتها الأخيرة، كأنما كبرت في الإطار الخشبي، وأخرجت منه وريقات جديدة لابتسامة قديمة اشتهرت أنها ، لفرط جمالها، تفتح الشباك في الصباح… ليدخل الضياء.
عرفتني الأم على رجل وسيم قائلة : أتعرف من هذا الرجل؟  وحين استغربت السؤال ، وكان ينبغي أن تجري تعارفاً… قالت : “إنه من يحمل قلبها!”
كان وجه الأم محتفظاً دائماً بذلك التعبير القديم الصبور الشاحب ، طوال سنوات غياب ابنتها. لكنه الآن وجه مستسلم بجلال لغموض بريء، وفضول بريء عبّر عنه لمسها المتكرر، وهي تحتضن الرجل بذراعها، لمنطقة القلب. كانت تلمس صدره في خشوع أمام أيقونة .
لم يكن ممكناً صوغ احتفال بمفردات الألم البشري والأمل البشري ، مخلوطين في عين باكية ، وعين ضاحكة … في وجه واحد…
وهكذا طلبت من الرجل أن يجعلني أضع أذني على صدره.
لست أدري، إن كان ما وددت سماعه هو صوت الضربات القادمة من عالم آخر… أم توقعت صوتها ، كما في اسطورة، يقول شيئاً، رنيناً، غناءً، روائح… أي شيء يدل على حياة وردتنا في يد بستاني يحاول…!
………………..

بعدها، مباشرة بعدها، لا يوجد من هو أعزّ من ذلك الرجل الذي قال لنا…
” إن جميع من يمر به يمدّ له لسانه ، لأنه أحمر وعذب “.
وقال لنا : إنه لم يعرف حتى الآن معنى أن يكره.
وقال لنا أشياء… كلها تدل على أن قلبها ما زال كما عرفناه :
يرفّ على الآلام كفراشة على الزهور!

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى