أمراء الحرب في الدولة (سحر مندور)

 

سحر مندور

مرّت ثلاثٌ وعشرون سنة على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت خمس عشرة سنة. وعندما ظهر سمير جعجع مرشّحاً للرئاسة، بدا وكأن شيئاً من تلك الحرب قد رشح عنوةً إلى سطح الصورة. كأن العين الاجتماعية كانت تتفاداه، فواجهها.
أمام ترشّحه، رأى مريدوه نهايةً مختلفة للحرب، فلم تقفل على سجن زعيمهم وإنما على تنصيبه رئيساً: النهاية السعيدة للحدوتة، انتظروها، ربما حلموا بها، واستنفروا لها. في المقابل، وجد رافضوه فيه اختزالاً لهذه الحرب، اغتيالاتها، عمالتها، التهجير، «الخوّات»، دمويتها. أما الإرباك فصنعه سؤالٌ بديهي يبدأ باتفاق: «كلهم شاركوا في الحرب»، ويكمل نحو الاختلاف: «لكن أحداً لم يفعل ما فعله جعجع!»، في مقابل «فلماذا لا يحقّ لجعجع بمنصب رسمي إسوة بهم؟». في السؤالين، تُرسى جماعةٌ يكون هو استثناؤها. والإجابة كما السؤالين، تبدو بديهية: لا الحرب صنعها واحدٌ أحد، ولا فوز مجرم حرب بمنصبٍ رسمي يبارك فوز مجرم حربٍ ثانٍ بمنصبٍ رسمي. ولكن، بعيداً عن السياسة، هناك شيءٌ فعله ظهور جعجع لم يفعله ظهورٌ آخر من الحرب. هو الذي لم يستفد من سنوات السلم الأهلي ليصنع التتمات السياسية للمرحلة الحربية، لا يزال فجّ الصورة، يستحضر الفجّ من الذاكرة. لكن بالتأكيد هناك أكثر من ذلك..

غسيل الصورة

قبلوا بترشّحه لأنه لم يخرج به عن القانون. وتراهم اجتمعوا في مشهدٍ أخّاذ تحت قبّة البرلمان، ليمارسوا الديموقراطية كما اتفقوا على ممارستها منذ «الطائف». وعندما خرج الصوت بأسماء ضحايا أدين جعجع باغتيالهم، تحت قبّة يؤمها كثيرون ممن خلّفوا وراءهم ضحايا، بدأت الصورة تتشعّب أكثر. ليست مواجهة صريحة بين الضحية والجلاد، وإنما هي صورة تذكارية يحضر فيها وجهُ متهمٌ واحد، ومجموعةٌ ممن لا يناسبهم استحضار الموتى، وأسماء قتلى ثلاثية لا تقلّ انتماءً إلى تلك المرحلة، يوم كانت السياسة تصنع الحرب، والحرب تصنع السياسة.
الإرباك تسبّب به جعجع عندما وضع وجهه في سدّة الرئاسة، إذ أضاءت الوجوه الأخرى كما في خريطة. في المقابل، وبسرعة، استوعبت السياسةُ الراهنة الخلل، طحنت حدّة الموقف في عملية ديموقراطية، وأعادت تثبيت الخريطة البديلة. كإعادة انتشار، امتصت الدولة الصدمة بجسمها وببيروقراطيتها النافذة. 124 نائباً اجتمعوا جدّياً، كتبوا الأسماء على الأوراق، وضعوها في الصندوق، وخرج صوتٌ يقرأ. وفي العمق، فإن سيادة المشهد الذي صاغوه كانت للأوراق البيضاء.
الأوراق البيضاء التي أتت في مواجهة جعجع، هي الأداة التي استخدمتها الدولة لإعادة تثبيت السلم فوق الحرب، والخريطة فوق الخريطة. بيضاء، كشرشفٍ يغطّي كامل المشهد الذي كشفه جعجع، إن في عيون مريديه أو مناهضيه أو المتأقلمين مع الإرباك، كأنها تنقّي العين منه.
لكن، في المقابل، كانت عينٌ ثالثة تتدخل في حياكة هذا الواقع، وهي التي حكمت روح المشهد، وحمته من إطلاق النار. هذه العين التي شارك الناس في صياغتها، قوامها هو عدم التصديق، أو عدم الاقتناع. معرفة أن ما يجري لا يجري كما يبدو، وإنما هو يجري لسببٍ سيليه. هو ليس اللحظة، وإنما وسيلةٌ إلى اللحظة التالية، انتخاباتٌ تالية، مرحلةٌ تعبّد صمت الانتظار. انتظار تكشّف الأمور في سوريا، لإرساء المعادلات الجديدة في لبنان. فجميعنا، دائماً، نعرف.

زنزانةٌ في قصر

من جهته، تعامل جعجع مع الأمور بغرابة. فهو بالتأكيد يمتلك إليها مدخلاً مختلفاً. هو قضى 11 عاماً في السجن، طبعت حُكماً شيئاً من نظرته. كعملٍ فنيّ معاصرٍ، تراه أعاد إنشاء زنزانة سجنه في ناحيةٍ من قصره. زنزانةٌ في القصر، وأغنية لعمرو دياب يواسي بواسطتها رفاقه. الوردة التي حمته من رصاص الاغتيال. قد تجد هذه القصص ماضيها في حكايات القداسة التي رافقت قصته، لكن فيها شيئاً دنيوياً لا يشبه الثابتين في خطاب الدِين. صوّر الإعلام الزنزانة، لكنها بقيت في بيته هو. هل سيدخلها عندما يقرأ، مثلاً؟ متى يدخلها، أساساً؟ ولماذا أنشأها، كأنها ما زالت في داخله، فأخرجها منه ووضعها أمامه. هل خرج جعجع فعلياً إلى الحرية؟ هل أيقظ فينا إحساساً بالأسر؟ هو بالتأكيد يدرك التوازنات السياسية وأدبيات السلم. خرج عنها بترشيحه لنفسه، وربما عن عمد. كأنه بذلك يخرج من سجنه. سنوات السجن كانت لنا سنوات السلم. الخروج عن أدبيات السلم، يمكن أن يتوازى هنا مع الخروج من السجن. والأغنية، هل أوردها كبرهان انتماءٍ إلى ذاكرة شعبية بقي خارجها لأحد عشر عاماً؟ خارجها، يشتهيها ويلعنها، أو ماذا؟
يمتلك جعجع قصةً تستأهل أن تُدرس، وهي تنمو بالتوازي مع قصة البلد. لا بد أنه رأى في جلوسه إلى كرسي الرئاسة فعلاً لا يخرج عن مشهد الجالسين على كراسينا الرسمية، وإنما يتوّجه. لا بد أنه يجد في ترشّحه أسباب استتباب هذا المشهد على سويّةٍ تمثيلية. في المقابل، فإن جلوسه سيضع قلق المشهد في الواجهة، حتى ولو احتفت به قلّة وهاجت بالغضب كثرة. بسهولة، يمكن للمرء أن يصيح بالرأي الحاد: هو مخلّص جماعة، وهو مجرم أخرى. تماماً كبشير، تماماً ككثرة من وجوه لبنان والوجوه التي استضافها لبنان. لا جديد تحت هذه الشمس. لكن الجديد الذي يمكن للمرء أن يسمعه في أطوار نقاش حالة جعجع، هو براغماتية معينة في التعامل مع الحرب كما السلم. هي لحظةٌ يمكن للمرء أن يرى فيها فعلياً أسباب استمرار الدولة اللبنانية، تحت ضجيج النعي اليومي والسباب المستدام. وقد يجد المرء نفسه متهوراً في التفكير باتجاهٍ يضع هذه الدولة في موقعٍ أمينٍ فعلياً على ذاكرة الأكثرية، كنتاجٍ فعليّ لها.
والحرب كذلك، لم تكن فعل مجموعة همجية وفدت على الشعب. الحرب ليست ثقباً أسود في الحياة، وإنما كانت نموّاً لها، واستمراريةً فيها. ما حدث خلال الحرب ليس جريمةً كبرى ابتلعت الوطن، وإنما كانت تسلسلاً واضحاً للأحداث، تجهيله يكاد يشبه التعتيم، أو «العفو العام». لقد كان لكلّ معركةٍ عنوان، ولكلّ شهيدٍ رسالة. وبقي من كلّ معركةٍ عنوان، ومن كلّ شهيدٍ رسالة. إن طحْن الحرب في «مجموعة مجرمين»، يبدو كتخفّفٍ من وطأة المعنى. المعنى المستمر ـ كما سياقات الحياة ـ في صناعة راهننا، والمواقف فيه.
بالتأكيد، كانت الحياة لتكون مختلفة لو السلم بدأ بوجوهٍ مختلفة، وعلى قواعد مختلفة. لكن التمنّي لا يقوى على الواقع. هذه الدولة التي نلعنها يومياً، تختزل فيها اليوم توازناً دقيقاً بين الآراء السياسية الموجودة في البلد، كما إنها تساهم في إنتاجها وتغذيتها. وها هي بالأمس قد أنتجت مشهداً في مجلس النواب، رغم كل ما يمكــن أن يُدان عليه، تراه بقي قريباً جداً من تموّجــات المــزاج العام: بترشــّح جعجع، بأسماء الضحايا، بالأوراق البيــضاء، وبالزنزانة في كلّ ركنٍ من القصر، وفي بعض أركان الروح.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى