أوباما على مفترق طرق في سورية

 
يبدو أن القوى المنافِسة في روسيا والصين (كلٌّ على طريقته الخاصة) تستعد لحصد المكاسب بعد أن شعرت بضعف الولايات المتحدة غداة الاعتداءات على السفارات وأعمال الشغب التي انتشرت في أنحاء العالم الإسلامي في الأسبوع الماضي.
يبدو أن سياسة الولايات المتحدة في سورية أصبحت على مفترق طرق، فلا يمكن أن يبقى الوضع الراهن على حاله: تستمر إراقة الدماء بلا رادع ويهدد الصراع بالتمدد إلى جميع الدول المجاورة، ما يهدد بالتالي المصالح الأميركية أيضاً. بدأت الحركات القومية الإثنية النافذة تنشط، ولا سيما بين الأكراد، وهي تهدد بفرض واقع ميداني جديد أمام المجتمع الدولي، ويبدو أن القوى المنافِسة في روسيا والصين (كلٌّ على طريقته الخاصة) تستعد لحصد المكاسب بعد أن شعرت بضعف الولايات المتحدة غداة الاعتداءات على السفارات وأعمال الشغب التي انتشرت في أنحاء العالم الإسلامي في الأسبوع الماضي.
لكن ما من حلول بسيطة في بلدٍ يشهد حرباً أهلية تزداد عنفاً مع مرور الأيام. تنتهي تلك الحروب، بحسب رأي المحلل في وكالة الاستخبارات المركزية كينيث بولاك، بواحدة من طريقتين: “إما أن يفوز أحد الفريقين بطريقة وحشية تقليدية، وإما أن يتدخل طرف ثالث بقوة تكفي لإنهاء القتال”.
استفاض كريستوفر ديكي من مجلة “نيوزويك” في شرح ذلك التحليل لتبرير عدم وجوب تنفيذ تدخل أميركي فقال: “لا يعبّر بولاك صراحةً عن صعوبة إنهاء الحروب الأهلية حتى لو حصل تدخل خارجي، ما لم يتعب الفريقان من المجازر. هذا الواقع يتذكره جيداً مسؤولون استخباريون آخرون كانوا قد شاركوا في صراعات سابقة في البلقان والشرق الأوسط. تطلب إنهاء الصراع 15 عاماً في لبنان وثلاث سنوات مريعة في البوسنة. هكذا تكون الحروب الضارية لإرساء السلام”.
يجسد مقتل السفير الأميركي في ليبيا خلال الأسبوع الماضي، في المدينة التي ساهم في تحريرها، الخطر المترافق مع دعم الحركات الثورية. (تجدر الإشارة إلى أن الظروف الدقيقة التي أحاطت بمقتل كريستوفر ستيفنز لا تزال غامضة، إذ تجرى التحقيقات بشكل سري وتسري شائعات مريعة في الصحافة العربية التي تذهب إلى حد ادعاء أن ستيفنز اغتُصب على يد المعتدين).
لكن تزامناً مع الموسم الانتخابي الرئاسي في الولايات المتحدة، تكمن المفارقة في واقع أن تلك المأساة تحديداً قد تترافق مع أثر معاكس على واشنطن. قد يعمد الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى تعميق التعاون مع الثوار السوريين أو التفكير بتنفيذ تدخل عسكري محدود لأنه يشعر بضرورة أن يُظهر وجهه الصارم وأن يبرر الخيارات السياسية التي قام بها خلال السنوات الأربع الماضية. يمكن أن يتخذ ذلك التدخل أشكالاً عدة مثل فرض حظر جوي على البلد أو إنشاء مناطق عازلة تسمح للثوار بإعادة تنظيم أنفسهم من دون أن تعيقهم قوات النظام.
أيد المحلل مارك كاتز من مجلة “فورين بوليسي” تنفيذ تدخل محدود واعتبر أن مساعدة المعارضة هي طريقة للحصول على ورقة ضغط يمكن استعمالها في التعامل معها:
“عبّر الكثيرون عن خوفهم من أن تتسلل “القاعدة” وحلفاؤها إلى المعارضة السورية، لكن من الواضح أن الولايات المتحدة والغرب يمكن أن يبذلا المزيد لمنع حصول ذلك عبر التدخل في الصراع السوري بدل الامتناع عن ذلك وترك الساحة خالية أمام “القاعدة”. تجدر الإشارة إلى أن إدارة كلينتون خلال التسعينيات كانت تهدف من خلال مساعدة المسلمين البوسنيين إلى منع إيران من التحول إلى أبرز داعم خارجي لهم. ينطبق المنطق نفسه على الوضع الراهن”.
لا شك أن أوباما يواجه خيارات لا يُحسَد عليها، فهو ينحاز إلى الثوار حتى الآن مع أنهم ارتكبوا بدورهم أعمالاً وحشية هائلة، وقد تسلل إليهم المجاهدون الخارجيون، وفشلوا في توحيد صفوفهم ضمن هيئة سياسية وعسكرية متماسكة.
يبدو أن الجيش السوري، رغم مؤشرات الإعياء التي تبدو عليه، يكسب زخماً متزايداً، فيوم الاثنين، قيل إنه أعاد فرض سيطرته على حي الميدان (مقاطعة أساسية في المعقل التجاري الشمالي في حلب حيث يحتدم القتال منذ شهرين تقريباً). لا تزال الدفاعات السورية المضادة للطائرات على حالها ويمكن استعمالها مع مخازن الأسلحة الكيماوية التي يملكها النظام كوسيلة ردع قوية في وجه أي تدخل دولي. كتبت صحيفة “دير شبيغل” الألمانية أن سورية اختبرت قذائف معدة لنقل الغاز السام في الشهر الماضي.
يضغط الأصدقاء والخصوم معاً على أوباما كي يتراجع عن استراتيجيته (باستثناء بعض القوى الأوروبية والدول العربية الخليجية). في المقابل، زادت إيران حدة لهجتها: يوم الأحد، اعترف قائد الحرس الثوري الإسلامي، الجنرال محمد علي جعفري، بوجود رجاله في سورية وهدد بالتدخل بطريقة مباشرة “إذا تعرضت سورية لاعتداء عسكري”. يُقال إن روسيا تحاول استعمال طريقة أخرى وتسعى إلى مسايرة واشنطن لدفعها إلى رؤية العالم العربي على طريقة موسكو غداة الكارثة الليبية فضلاً عن حثها على وقف الجهود الرامية إلى إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. اعتبر محلل من أوروبا الشرقية في موقع “آسيا تايمز أونلاين” أن الكرملين قد يعزز تعاونه مع الولايات المتحدة على أمل أن يكسب مستوى جديداً من النفوذ في الشرق الأوسط.
لكنّ أهم ما في الأمر هو أن تركيا بدأت تغير مسارها. وسط تنامي الاضطرابات في المناطق الكردية حيث وقعت واحدة من أشرس المعارك خلال 12 سنة على الأقل، يبدو أن أنقرة بدأت تتردد في دعم الثوار السوريين. قيل إنها بدأت تعيد نشر اللاجئين السوريين في مناطق بعيدة عن الحدود لمنعهم من المشاركة المباشرة في الصراع المسلح ضد النظام السوري.
عدا احتدام الاضطرابات الطائفية في جنوب تركيا (ولا سيما بين اللاجئين المسلمين السنّة وعدد كبير من العلويين العرب الذين يدعمون نظام دمشق)، ينجم هذا الوضع عن نجاح الأسد في الانقلاب على الفكرة التركية التي تدعو إلى إنشاء مناطق عازلة بالقرب من الحدود، فقد سحب قواته خلال الشهرين الأخيرين وترك معظم مناطق سورية الشمالية بيد الانفصاليين الأكراد المتحالفين مع حزب العمال الكردستاني الذي يشارك في الصراع المسلح ضد الحكومة التركية.
إذا قرر الأتراك الآن إنشاء ملجأ آمن للثوار السوريين بالقرب من الحدود، فمن المتوقع أن يتحول معظم الناس الذين يحمونهم إلى ألد أعدائهم. سبق أن أعلن المجلس الكردي الأعلى في سورية خططه بإنشاء جناح عسكري منظم، وبما أن الميليشيات الكردية في المنطقة رفضت الدعوات إلى الانضمام إلى بقية الثوار أو حتى التحالف معهم، فمن المستبعد أن يستفيد الجيش السوري الحر من الوضع كثيراً. قد تورط تركيا نفسها في مأزق صعب بهذه الطريقة.
بسبب هذا الوضع، قد يحصل تعاون بين الأسد (إذا نجح في الصمود) والحكومة التركية مستقبلاً، ومن المستبعد أن يسلم الرئيس السوري الأراضي إلى الأكراد إذا حصل على خيار آخر، ومن المستبعد أن يستسلم الأكراد من دون خوض المعركة. وفق هذا السيناريو الافتراضي، ستكون تركيا حليفة الأسد الطبيعية ويمكن أن تساهم في سحق المتشددين الأكراد من الشمال. تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين الدولتين المجاورتين سبق أن شهدت تحولات جذرية مرتين على الأقل خلال العقد الماضي.
بعبارة أخرى، إذا قرر أوباما تعزيز انحيازه إلى الثوار السوريين، فسيكون موقفه جريئاً وغير مسبوق ويمكن أن يؤدي إلى اضطراب علاقاته المستقبلية مع واحد من أهم حلفائه. نتيجةً لذلك، من الصعب ألا يؤيد الأميركيون الطموحات الديمقراطية لشعوب أخرى مثل الأكراد.
ثمة سيناريوهات غريبة أخرى يمكن أن تتحقق أيضاً: على سبيل المثال، يشير الاجتماع الأخير في القاهرة بين المسؤولين الأتراك والإيرانيين والمصريين والسعوديين إلى احتمال أن تلعب مصر دوراً أكبر في الصراع. بما أن مصر هي أكبر دولة عربية وأكثرها اكتظاظاً، فلا شك أنها الدولة الأنسب لإرسال قوات حفظ سلام إلى ذلك البلد المشرقي.
بشكل عام، من المستبعد أن تقطع الإدارة الأميركية علاقاتها مع الثوار السوريين، أقله لأن صمود نظام الأسد ليس مضموناً ولأن واشنطن تحتاج إلى ورقة ضغط تستعملها للتعاطي مع أي طرف يصل إلى السلطة في المرحلة المقبلة (لكن يصعب التنبؤ بحجم الدعم الذي ستقدمه). ما لم تتخذ واشنطن خطوة جريئة لكسر وضع المراوحة، يمكن أن نتوقع حرباً أهلية مطولة حيث تحاول الدول المجاورة والقوى الواقعة على مسافة أبعد احتواء الصراع داخل البلد، لكن لن يكون نجاحها مضموناً.
 

صحيفة الجريدة الكويتية نقلا عن آسيا تايمز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى