إحباط الأمل في مأسسة صنع القرار المصري (نجلاء مكاوي)

نجلاء مكاوي

 

بدا للمصريين في الأفق أمل جديد في بناء دولة مؤسسات ديمقراطية، مستقلة في قرارها الداخلي والخارجي. هذا الأمل طالما شهد مداً وجزراً منذ نجاح الموجة الأولى للثورة المصرية بإسقاط رأس النظام السابق. ثم عاد واستبد بقلوب وعقول المصريين في 27 آب/أغسطس 2012، عندما أُعلن عن تشكيل الفريق الرئاسي المكون من أربعة مساعدين و17 مستشاراً. حينها بدا أن هناك تشكيل مؤسسة للحكم، ولو في خطوتها الأولى. وهذا على الرغم من أن الإعلان عن هذا الفريق أثار العديد من التساؤلات بسبب ما اعتراه من غموض، وهي تساؤلات تمحورت حول مهامه (نائب، ومعاونين، ومستشارين)، التي اعتقد البعض أنها تتمثل في متابعة سياسة الدولة والحكومة، ووضع خطة طموحة أمام رئيس الجمهورية تعبِّر عن مطالب الشارع المصري، والاهتمام بالقضايا التي تشغل بال المواطن وتمس حياته بشكل مباشر، مثل رغيف الخبز والأمن والبطالة والصحة والتعليم. وبلغ التفاؤل مداه حين اعتقد كثيرون بأنه ثمة تحول في عملية صناعة القرار بقطاعات الدولة المختلفة، منتقلة من الفردية إلى المؤسسية التي لا تتوقف عند شخص، ولا تتأثر بتغيير مسؤول.

فريق عمل بمهام غامضة

وهكذا أدى عدم الإعلان بوضوح عن مهمة الفريق وصلاحياته، إلى إلحاق الاضطراب في أسباب تشكيله، واستطراداً في انتماءات أعضائه. فإذا كانت مهامه ومعايير اختياره غير معروفة، فهي إذاً محاصصة سياسية، أو مكافأة لمن دعموا الرئيس في الانتخابات في مواجهة خصومه. ثم أن العدد الكبير من المستشارين غير مفهوم طالما الملفات المنوطة بهم غير محددة، ولا يوجد آلية لتقييم عملهم أو لمحاسبتهم في حال التقصير. فضلاً عن أن اختلافهم الشديد (أيديولوجياً وسياسياً)، قد يُحدث حالة من التشتت وعدم الانسجام، مع ملاحظة صعوبة تصنيف بعضهم، وهل تمَّ على أساس علمي أم سياسي، وهو ما يجعل إمكانية اشتغالهم كـ«فريق عمل» صعبة. وفي الوقت ذاته، لم تُحدَّد طبيعة عمل كل منهم بمفرده.
لم تثن هذه المخاوف والتساؤلات الناس عن التشبث بالأمل، خاصة أنهم لطالما عانوا عبر عقود سابقة من استبداد الحاكم، واحتكاره لصناعة واتخاذ القرار، وكان المحدد الرئيس له فيما تبنى من سياسات هو قناعاته الشخصية، وتوجهاته وعلاقاته الخاصة، وانتماءاته ورؤاه. فنظام مبارك كان يعتمد نظرية «القائد المسيطر»، فيتخذ القرار بمفرده دون الرجوع إلى المؤسسات، محدودة الدور والتأثير. ومن سماهم مستشارين توقف حجم تأثيرهم في صناعة القرار على مدى قربهم الشخصي منه، عائلياً أو حزبياً، وليس على أساس انتماء وظيفي مؤسسي لهم، أو قدراتهم في صياغة البدائل والخيارات، أو عبر إتباع آلية محددة للاختيار بين البدائل. وكثير من الدول الديمقراطية يضع دستورها حدوداً لدور المستشارين في عملية صنع القرار لصالح المؤسسات والوزارات المعنية، والتي يُجبر رئيس الدولة على إشراكها في تلك العملية، بحيث تتحمل مسؤولياتها، في حين يتحمل القائد مسؤولياته عن رؤيته التي يشكلها بمعاونة مستشاريه.

خطر تكرار نموذج القائد المسيطر

التخلص من نموذج «القائد المسيطر» على صناعة القرار هو أحد طرق التحول الديمقراطي المتوافق عليها. فذاك النموذج يعكس تردي وضعية المؤسسات والأجهزة التنفيذية. واستمرار إتباعه اليوم يعطي مؤشرات على طبيعة شخصية القائد المنتخب للمرة الأولى في تاريخ مصر. وأما محاولة التنبؤ باحتمال أن يتبع الرئيس مرسي نموذجاً مضاداً لنموذج «القائد المسيطر» في رسم وصناعة السياسة فهو أمر يتوقف على القناعات الشخصية للرئيس من جهة (مدى إيمانه بأهمية مأسسة صناعة القرار)، واعتماد مبدأ مشورة أهل الخبرة لا أهل الثقة، ورؤيته لمفهوم الاستقرار كأساس للتنمية، ورغبته في العمل داخل أطر تنظيمية ومؤسسية، وإفساح المجال لاتساع حرية الحركة أمام الأجهزة التنفيذية صانعة القرار في السياسة الداخلية كوزارتي المالية والاقتصاد، وفي مجال السياسة الخارجية كوزارة الخارجية. كما يتوقف على حجم استجابته لضغوط قوى المعارضة الداخلية، وحجم هذه الضغوط بحد ذاتها.

مسؤوليات ضائعة

لقد تبدد الأمل شيئاً فشيئاً مع استمرار غموض طبيعة عمل فريق مرسي الرئاسي، وتفجُّر ملفات عدة لم يخرج على المصريين من يعلن مسؤوليته عنها، أو عن متابعتها، ووضع رؤية للتعاطي معها، في ظل وجود نظام وجماعة حكم جديدين. بين هذه الملفات ما هو داخلي وخارجي. فقد تُرك ملف العدالة الانتقالية، الذي أسفر إهماله عن تصاعد الغضب الشعبي، لا سيما مع تتابع أحكام البراءة لقتلة الثوار. كما ظل ملف إدارة العلاقات مع الخارج، وتحديداً الولايات المتحدة، مثار جدل، ويدار بعشوائية وغموض، خاصة بعد أزمة الفيلم المسيء للرسول وتعرض السفارة الأمريكية بالقاهرة للاعتداء، وما تبعه من قرار الكونغرس الأمريكي وقف مبلغ 540 مليون دولار كانت ستتسلمها مصر.
فالأمل في بدء سياسة فعالة خارجياً تعتمد أسساً جديدة تعطي الأولوية للمصالح القومية وضرورات الأمن القومي، كان ينبثق من أمل أكبر، وهو تبني مشروع وطني لبناء دولة معتمدة على ذاتها، ومستغلة لمواردها. لذا فثمة العديد من الملفات التي لا يستطيع أي قائد لوحده اتخاذ قرار بشأنها، مهما بلغت معرفته. فتركة مبارك الثقيلة بها ملفات تحوي قنابل موقوتة مثل «العدالة الاجتماعية»، و«الفساد المالي والإداري»، و«أمن سيناء»، لا تمتلك الدولة المصرية في تعاملها معها ترف التسويف والتردد واللارؤية. والرؤية لا يصنعها شخص أو ذووه، بل مؤسسات تنظم عملها قواعد وقوانين، وتضم خبراء ومتخصصين، وخبرات علمية وسياسية.

رئيس مرتبك.. ومتفرد

ظهر سريعاً ارتباك الرئاسة كنتيجة لعشوائية عملها وغموضه، وعدم جديته، وبالتالي عدم وجود مؤسسة، أو الرغبة في إنشائها بالأساس. بالنسبة للداخل، بدا أن القائد يتخذ قراراته دون الرجوع إلى فريقه، أو استشارة هذا الفريق، مع إمكان الأخذ بمشورته. هناك مثال ملف المعونات والقروض الاقتصادية، وهو ما أثير عند طلب حكومة الدكتور هشام قنديل قرضاً من صندوق النقد الدولي بـما يزيد على 4 مليار دولار. ويعكس هذا القرار استمرار قوي لسياسات نظام مبارك الاقتصادية، كما يعكس عدم وجود مشروع وطني تنموي مستقل يحرر مصر من تبعيتها للغرب ومؤسساته المانحة. ولكن، وعلاوة على ذلك، طلبت الحكومة القرض، وتمسكت به، على الرغم من غضب الرأي العام، وعلى الرغم من طرح العديد من البدائل من قبل الخبراء والمتخصصين، سواء كانت بدائل فردية أو عبر مؤسسات اقتصادية، تُمكِّن الحكومة من الاستغناء عن القرض. الحكومة بررت الأمر بأنه لا بدائل عنه. وانتفاء البدائل في السياسة أمر لا يعبر إلا عن الانفراد بصناعة واتخاذ القرار، والإصرار على إتباع سياسات لا تعبر إلا عن قناعات متبنيها، وهو يدلل على ضعف وتهميش مؤسساتي عام. هذا فضلاً عن تجاهل الرأي العام، الذي تعتبره جل مؤسسات صنع القرار في العالم أحد المحددات الرئيسة لتوجهات السياسة.
تبدى أيضاً انفراد الرئيس ومجموعة صغيرة من القياديين الكبار بجماعة «الإخوان المسلمين»، بملف مقاضاة الرئيس لخصومه (التي تتم دون مشاركته بشكل شخصي، لكن محامي الجماعة أو المرتبطين بها بقوة هم من قاموا بالدعاوى القضائية ومتابعتها)، علاوة على الملف الاقتصادي، والعلاقات مع رجال الأعمال التي يتولاها خيرت الشاطر. كما ثمة أزمات ضُرب بآراء بعض أعضاء الفريق الرئاسي فيها عرض الحائط، مثل أزمتي الألتراس، وجامعة النيل. تفجرت الأولى عندما أصر شباب ألتراس النادي الأهلي على وقف مباريات الدوري العام حتى يتم القصاص لضحايا مذبحة بورسعيد، وأصرت الحكومة على استئنافه بإقامة مباراة الأهلي وإنبي في 9 أيلول/ سبتمبر، «حفاظًا على هيبة الدولة». وأما أزمة جامعة النيل فتتمثل في إقامة مشروع مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا على أنقاض جامعة النيل بعد تصفيتها ومحوها من الوجود والحصول على كل منشآتها وأملاكها، وهو ما يرفضه طلابها وأساتذتها، ويواجهونه بالاعتصام، الذي أجابت عليه الحكومة بمحاولة فضه بالقوة.
على المستوى الخارجي، وفي إطار رحلات الرئيس الدولية المكوكية، غابت رؤى وتصورات فريقه الاستشاري تماماً عن المشهد، بل بدا هو شخصياً غير واضح الهدف، ومفتقداً للرؤية الإستراتيجية في تعامله مع كل القوى الدولية والإقليمية. فحين صرح مستشار الرئيس، محمد عصمت سيف الدولة، عن إعداده مشروعاً لتعديل اتفاقية كامب دافيد وفقاً لما يفرضه الوضع الأمني المتدهور في سيناء، إذا بالرئاسة تصرح بـ«أننا لا نحتاج لتعديل اتفاقية السلام مع إسرائيل حالياً، وما يصدر من تصريحات لمستشاري رئيس الجمهورية لا يعبر سوى عن آراء أصحابها»!

فريق ليس بفريق

لقد اختلف أعضاء الفريق الرئاسي أنفسهم حول دور فريقهم ومهامه، وعما إذا كان تشكيله جزءا من بناء مؤسسة صنع القرار. ففي حين اعتبر أحدهم أنه لا يمكن إطلاق مصطلح «مؤسسة الرئاسة» عليه، لأن المؤسسات لا بد أن يحكمها القانون، وهذا الشرط لا ينطبق على الفريق الرئاسي من مساعدين ومستشارين حيث لا يوجد نص دستوري ينْظم عملهم، أو يوضح ماهية مهامهم وأدوارهم، فقد اعتبر آخرون، ومن اللحظة الأولى، أن تشكيل فريق رئاسي يعني أنه أضحى هناك «مؤسسة رئاسية». هذا التضارب نفسه في تعريف الأمر يعكس بذاته مدى انعزال أعضاء الفريق الرئاسي بعضهم عن بعض، ومقدار عشوائية عملهم.

صحيفة السفير اللبنانية (السفير العربي)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى