إسكندر عبد النور باحثاً في مقوّمات العقل العربي

من يتابع ما أنتجته الحداثة من ثورات فكرية مهمة، ويتعمّق في مناهج علوم الإنسان والمجتمع، ويطّلع عن كثب على آخر المؤلفات التي تصدر في الغرب حول نقد الفكر والأدب والفنون، لا يمكنه إلا أن يلاحظ الاستخدامات المختلفة لكلمة عقل.

ففي القاموس العربي ترتبط بالسلوك والأخلاق، وفي القرآن الكريم تعني التمييز بين الخير والشر، وبين الهداية والضلال، أما في الكتابات الحديثة فالعقل يشير ابتداء من فؤاد مغربي وحليم بركات ورفايل باتاي، وانتهاء بمحمد الجابري، وعلي الوردي إلى عمليات التفكير التي تعكس المقومات الأساسية للعقل الجماعي العربي الذي يحاول الباحث اللبناني إسكندر عبد النور أن يكشف عنها في كتابه «العقل العربي – أنطولوجيا المجرد والعين « الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بترجمة مصطفى حجازي.

تمثّلت أولى المقاربات في البحث عن مميّزات العقل العربي الجماعي أو بالأحرى مقومّاته، مع الباحث الأميركي رفايل باتاي الذي وجد أن المقومات التقليدية للعقل العربي تقع في فئتين أساسيّتين: الأصول البدوية قبل الإسلامية والمكوّن الإسلامي المضاف إلى الأول، والمتمازج معه.

ويتضمن المقوّم البدوي قيماً من قبيل القرابة، والولاء، والشجاعة، والأنفة من العمل اليدوي، والتشديد على احترام الشرف واحترام الذات. كما يتضمن بشكل أوضح متلازمة الشجاعة / الإقدام، ومتلازمة الضيافة / الإباء.

أما المقوّم الإسلامي فيبدو في الطريقة النوعية التي صبغ بها الإسلام مجمل حياة المسلمين، أي منظومة الاعتقاد المميزة له، وفي منظومته المعيارية التي تحضّ على الرحمة والتواضع، وفي توجّهه الغائي، والهادف، وفي انضباطه الديني، وفي آثاره النفسية التي توفّر قوة الصمود. ويتضمن المقوم الإسلامي إضافة إلى ذلك مفهوم المقدّر والمكتوب الذي يظهر كما يقول باتاي في نفور العربي من التخطيط البعيد المدى وتركه للعناية الإلهية.

المقوّم الآخر للعقل العربي هو التجاذب الوجداني الذي يتولّد عند العرب، وبخاصة أولئك الذين تعلّموا في الغرب. إذ تؤدّي كل من ثنائية اللغة والثقافة إلى الشعور بالهامشية حيث يدرك المتعلم العربي أنه لا هو غربي كلياً، ولا هو عربي تماماً.

وتولّد هذه الهامشية الثقافية بدورها حالة من التجاذب الوجداني فهو يشعر بانجذاب لا يقاوم نحو أسلوب الحياة الغربي وإعجابه به، كما يشعر في الآن نفسه بانعدام الثقة تجاه الغرب، ويريد إزالة سيطرته عن بلده.

المقوّم الثالث للعقل العربي تبعاً لتحليلات باتاي يتمثّل بالقصور النسبي للتلازم مابين الأفكار والكلمات والأفعال، بمعنى أن عمليات الفكر العربي هي نسبياً أكثر استقلالاً، أي أكثر انفصالاً عن الواقع، مقارنة بعمليات الفكر النمطية المميّزة للإنسان الغربي، فالصياغات اللفظية العربية هي أقل تأثيراً في الواقع من الصياغات اللفظية عند الإنسان الغربي.

وهكذا فالكلام العربي ينزع الى التعبير عن أفكار مثالية، وإلى تمثيل ما هو مرغوب، وما هو مأمول وكأنه الحقيقة الراهنة، وفوق ذلك ينزع العقل العربي إلى التحرّك على مستوى المثل العليا مبتعداً عن أرض الواقع، بمعنى أن العرب يبدون أكثر ميلاً إلى المثاليات والصياغات اللفظية من جانب، مما هم إلى الأفعال المعبرة عن الواقع الملموس من الجانب الآخر، ولا يكتفي باتاي بتبيان هذه المقوّمات للعقل العربي وإنما يشير إلى مقومات أخرى ومن بينها اللغة العربية التي تدفع بالعقل العربي نحو التعبير التوكيدي في الطلبات، والنيات، والتهديدات، وتؤثر في ثقافة المتكلم، وتنزع إلى عدم تشجيع بناء الزمن عبر ماض وحاضر ومستقبل، وبالتالي فإنها تقلّل من أهمية دقة المواعيد والإدراك التسلسلي للزمن.

انخرط محمد عابد الجابري في سعيه إلى تحديد مقومات العقل العربي، في المهمة الكبرى المتمثلة بوصف المنتجات الفكرية لكل المفكرين العرب والمدارس الفكرية منذ القرن الثامن وحتى القرن السادس عشر، وقد تبيّن له أن كل نشاط المفكرين العرب الفكري والمكتوب، ينزع نحو الاندراج ضمن إحدى منظومات المعرفة وهي: منظومة المعرفة التعبيرية(البيان) التي تهدف إلى التعبير عن الآيات القرآنية وشرحها وتأويلها، وانتهى المطاف بهذه المنظومة إلى تنمية نظرة إلى العالم قائمة على التعبير / المعنى، الأصل / الفرع، الجوهر/ العرض.

المنظومة الثانية التي تعبّر عن مقوّمات العقل العربي هي منظومة (العرفان) التي انتقلت إلى التراث العربي من أصول غريبة وقد احتلّت مكانة مهمة لدى الفكر الشيعي والإسماعيلي، وكذلك في الفلسفات الصوفية والفيض، ويسيطر بعدان قطبيان على هذه المنظومة يستعمل أولهما اللغة تبعاً للزوجين: المعنى الظاهر / المعنى الباطن، ويستعمل ثانيهما السياسة من خلال نشر زوجَي القاعدة السياسة / النبوة.

المنظومة الثالثة في تحليل الجابري لمقوّمات العقل العربي هي منظومة (البرهان) التي دخلت إلى الفكر العربي مع الترجمات العربية للفلسفة اليونانية. وتتبنّى هذه المنظومة النظرة الأرسطية إلى العالم بوصفه مترابطاً سببياً، وينشد الحصول على المعرفة من خلال السوابق التي يطرحها العقل والتي تتبعها العواقب القائمة على الإشتقاق المنطقي.

يستنتج الجابري بعد جلائه لمفهوم البيان والعرفان والبرهان أن العقل العربي ليس جوهراً، ولا طبعاً، أو طبيعة، ولا عقلية. إنه فقط جملة المفاهيم والآليات الذهنية التي يتمّ بها إنتاج المعرفة داخل الثقافة العربية. من هنا يمكن القول إذا كان المفكر يعتمد منظومة البيان، فهو ذو عقل بياني، وإذا اعتمد المنظومة العرفانية فهو ذعقل عرفاني، وإذا اعتمد المنظومة البرهانية فهو ذو عقل برهاني.

قبل عقدين من استقصاء باتاي حول مقوّمات العقل العربي، أكبّ علي الوردي، وهو عالم اجتماع عراقي في جامعة بغداد على فحص المقومّات الأساسية للشخصية العراقية والعربية، وقد حدّد شرطاً نفسياً اجتماعياً استعمله للكشف عن مقوّمات هذه الشخصية، يتمثّل في «ازدواج الشخصية»، وقد استوحى الوردي هذا المفهوم من فكرة الصراع الثقافي التي قالت بها مدرسة شيكاغو، وحوّله إلى صراع بين البدو سكان الصحراء وأهل المراكز الزراعية والحضرية.

سكن البدو الرحل الصحراء وكانت لهم مجالاً حيوياً مفتوحاً، لا يوفّر سوى العشب للرعي الذي يتوقّف بدوره على ندرة المطر. لم يكن بإمكان البدو اقتسام الأرض وتسييجها نظراً لاتساعها، لذلك كانوا مرغمين على التنافس والقتال على الموارد النادرة بما فيها آبار الماء، وبما أن الشجاعة والقوة أصبحتا المحدّدين الحاسمين للوصول إلى الموارد المحدودة، فلقد أصبحت القيم والمعايير المرتبطة بهما هي السائدة وتمثّلت بالشجاعة والشرف، واحترام الذات، واحتقار المهن مفضّلين عليها الغزو والسلب بواسطة القوة لتأمين العيش بكرامة. أما منظومة قيم المراكز الزراعية والحضرية فهي تشدّد بحسب الوردي، على نقيض قيم عيش البدو الرحّل في الصحراء، على الإنتاجية لا على السلب بواسطة القوة، لذلك ثمّن العمل الكادح، والتجارة، والبيع، والشراء.

يمثّل كتاب إسكندر عبد النور الأستاذ المحاضر في الجامعات الكندية مقارنة نظرية ومنهجية، غير مسبوقة في دراسة مميّزات العقل العربي والثقافة العربية، فهو باتكائه على معطيات العلوم المعرفية، وعلم النفس المعرفي الذي يشتغل على آليات عمل العقل وكيفية التفكير وليس محتواه، يصل إلى نتائج تفيد بأن العقل العربي، هو العقل الأقرب إلى العقل الأوروبي إذ يتصف كلاهما بالمقاربة الذهنية التجريدية الجدلية، في مقابل الفكر الأنغلو أميركي المرتكز على العينية والتجريبية والبراغماتية.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى