كتب

“استدعاء ذاتي” رحلة تثير الهلاوس عبر درب الذاكرة

 

اختلفت رؤى الكتاب حول رواية “استدعاء ذاتي” للكاتب والسيناريست الأميركي بليك كراوتش، حيث رأى كاتب مجلة نيوزويك أنها رواية خيال علمي مثيرة، يخلط فيها كراوتش ببراعة بين العلم واللغز ليخرج لنا بخبرة ما يعنيه أن تكون الإنسانية بعمق، فيما رأى كاتب مجلة “التايم” أنها “رحلة تثير الهلاوس عبر درب الذاكرة. إن عبقرية كراوتش قادرة على مجابهة التحدي الذي وضعه أمامه للتغلب على بنية الزمن نفسه”، أما كاتب إنترتينمنت ويكلي فقال عنها “بالقطع رواية لا يمكنك أن تنساها وأنت تحزم حقيبتك لقضاء أجازة… ينفخ كراوتش الحياة في المادة بمزيج من العاطفة والذكاء والتأملات الفلسفية”.

الرواية التي ترجمها عبدالرحيم يوسف وصدرت أخيرا عن دار المحروسة تدور حول المحقق باري ساتون من شرطة نيويورك، والذي ينطلق في مهمة عسيرة للتحقيق في ظاهرة قاتلة هي متلازمة الذاكرة الزائفة، وهي اختلال عقلي قاتل يدفع ضحاياه إلى الجنون عندما تعاودهم بشكل رهيب ذكريات حياة لم يعيشوها قط. وعلى جبهة أخرى، تسعى المتخصصة في علم الأعصاب هيلينا سميث لخلق تكنولوجيا تسمح لنا بالحفاظ على ذكرياتنا الثمينة، في محاولة منها لإنقاذ أمها من مرض الألزهايمر. وفي لحظة ما يلتقي الاثنان في محاولة لإنقاذ العالم من هذا الشر المحدق الذي يحول الحياة الإنسانية إلى جحيم لا يطاق وكابوس متصل.

يُعد كراوتش الذي ولد عام 1978 من الأسماء المعروفة في قائمة أفضل الكُتَّاب مبيعا؛ خاصة بثلاثيتهThe Wayward Pines  التي صدرت ما بين 2012 و2014، وتحولت إلى مسلسل تليفزيوني عام 2015. صدرت روايته “المادة السوداء” عام 2016، وصدرت ترجمتها إلى العربية عن دار المحروسة عام 2019. يعيش في كولورادو مع زوجته جاك بن زكري وأطفالهما الثلاثة.

أنا لا أتذكر زوجي فقط، بل أتذكر رائحة أنفاسه في الصباح عندما كان يتقلب ويواجهني في الفراش. وكيف في كل مرة كان ينهض فيها قبلي كي يغسل أسنانه

من أجواء الرواية

ما الوقت إلا ذكرى في طور التشكل.

– فلاديمير نابوكوف

باري

2 نوفمبر 2018

يتوقف باري ساتون بسيارته في حارة سيارات الحريق عند المدخل الرئيسي لمبنى (بو)؛ وهو برج من طراز (الآرت ديكو) يتوهج بلون أبيض مع إضاءة كشافاته الجدارية الخارجية. يخرج من سيارته الكراون ﭬيك، ويهرول عبر الرصيف، ويندفع عبر الباب الدوَّار داخلا البهو.

الحارس الليلي واقف قرب صف المصاعد، يمسك بواحد منها مفتوحا بينما يسرع باري في اتجاهه، وحذاؤه يتردد صدى وقعه على الأرضية الرخامية.

يسأل باري بينما يخطو داخلا كابينة المصعد: “أي طابق؟”

“الحادي والأربعون. عندما تصعد إلى هناك، انعطف يمينا وسر الطرقة كلها قاطعا الصالة.”

“سيكون هناك المزيد من رجال الشرطة بعد لحظات. أخبرهم أني قلت أن ينتظروا حتى أعطيهم إشارة”.

يندفع المصعد إلى أعلى في سرعة، متناقضا مع عمر المبنى من حوله، وتتصلب أذنا باري بعد ثوان قليلة. وعندما تنفتح الأبواب أخيرا، يخرج مارا بلافتة لشركة قانونية. ثمة مصابيح مضاءة هنا وهناك، لكن الطابق يظل في أغلبه مظلما. يعدو فوق السجاد، مارًا بمكاتب صامتة، وحجرة اجتماعات، وحجرة استراحة، ومكتبة. ينفتح الرواق أخيرا على مساحة استقبال يقترن بها المكتب الأكبر.

في الضوء الخافت، تبدو التفاصيل كلها غارقة في ظلال رمادية. مكتب ضخم من الماهوجني مدفون تحت الملفات وأوراق العمل. منضدة دائرية مغطاة بدفاتر الملاحظات وأكواب القهوة الباردة مُرَّة الرائحة. بار به حوض ماء، وقد امتلأ البار بمخزون استثنائي من زجاجات ويسكي ماكالان رير. حوض سمك زجاجي متوهج يطنُّ في الجانب البعيد من الحجرة ويضم سمكة قرش صغيرة وعدة أسماك استوائية.

وعندما يقترب باري من الأبواب الزجاجية الفرنسية، يُسكت هاتفه ويخلع حذاءه. يمسك المقبض ويفتح الباب بهدوء وينزلق خارجا إلى الشرفة.

ناطحات السحاب المحيطة في الجانب الغربي الشمالي لمانهاتن تبدو روحانية في أكفانها المضيئة من الضباب. ضوضاء المدينة عالية وقريبة – أبواق سيارات تتردد بين المباني وعربات إسعاف بعيدة تسرع نحو ثمة مأساة أخرى. برج مبنى (بو) في الأعلى بأقل من خمسين قدما – تاج من الزجاج والفولاذ والبناء القوطي.

تجلس المرأة على مبعدة خمسة عشر قدما إل جوار ميزاب ماء متآكل، ظهرها إلى باري، وساقاها تتدليان فوق الحافة.

يقترب بوصات، والبلاطات المبتلة تسرب الماء عبر جوربه. لو أمكن أن يقترب بما يكفي دون اكتشافه، سيجرها بعيدا عن الحافة قبل أن تعرف ما…

“أشم رائحة الكولونيا التي تضعها..” تقول دون أن تنظر خلفها.

يتوقف.

تدير وجهها ناظرة إليه وتقول: “خطوة أخرى وأقفز”.

من الصعب التحديد في الإضاءة المحيطة، لكن يبدو أنها في حوالي الأربعين. ترتدي سترة غامقة وتنورة بنفس اللون، ولا بد أنها كانت جالسة هنا في الخارج لفترة، لأن شعرها كان مبططا من بخار الماء في الضباب.

تسأل: “من تكون؟”

“باري ساتون. أنا محقق في شعبة السطو المركزية بشرطة نيويورك”.

“أرسلوا شخصا من شعبة السطو…؟”

“تصادف أن كنت الأقرب. ما اسمك؟”

“آن ﭬوس بيترز”.

“هل يمكنني أن أدعوكِ آن؟”

بليك كراوتش

“بالتأكيد”.

“هل يوجد أحد يمكنني أن أتصل به من أجلك؟”

تهز رأسها.

“سأخطو إلى هنا حتى لا تضطري إلى الاستمرار في لوي عنقك كي تنظري إليّ”.

يتحرك باري مبتعدا عنها إلى زاوية تجعله أيضا عند حاجز الشرفة، على مبعدة ثمانية أقدام من حيث تجلس. يلقي نظرة سريعة من فوق الحافة، تتقلص أحشاؤه.

تقول: “حسنا، دعنا نسمعها..”

“معذرة؟”

“ألست هنا كي تكلمني وتقنعني بالنزول؟ ابذل أقصى ما لديك.”

كان قد قرر ما سيقوله وهو راكب في المصعد، مستذكرا تدريبه على حالات الانتحار. أما الآن، في هذه اللحظة مباشرةً، فهو يشعر بأنه أقل ثقةً. الشيء الوحيد الذي هو واثق منه أن قدميه تتجمدان.

“أعرف أن كل شيء يبدو ميؤوسا منه بالنسبة لك في هذه اللحظة، لكن هذه مجرد لحظة، واللحظات تمر.”

تحدق آن مباشرة إلى أسفل جانب المبنى، على ارتفاع أربعمائة قدم من الشارع، وكفاها مبسوطتان على الحجر الذي بلي بفعل عقود من المطر الحمضي. كل ما عليها أن تفعله هو أن تدفع نفسها قليلا. وهو يشك أنها منقادة لمشاعرها، وتمشي على أطراف أصابعها نحو فكرة القيام بالفعل. مستجمعة تلك الطاقة النهائية اللازمة لهذا.

يلاحظ أنها ترتعد.

يسأل: “هل يمكنني أن أعطيكِ سترتي؟”

“أنا واثقة للغاية أنك لا تريد الاقتراب بأي شكل أيها المحقق.”

“ولمَ هذا؟”

“لديّ م ذ ز”.

يقاوم باري الرغبة في الهروب. بالطبع سمع بـ (متلازمة الذاكرة الزائفة)، لكنه أبدا لم يعرف أو يقابل أحدا مصابا بها. ولم يتنفس أبدا الهواء نفسه. وهو ليس واثقا الآن من أنه ينبغي أن يحاول الإمساك بها. لا يريد حتى أن يكون بهذا القرب. لا، اللعنة على هذا. إذا تحركت كي تقفز، سيحاول أن ينقذها، وإذا التقط متلازمة الذاكرة الزائفة أثناء العملية، فليكن. تلك هي المخاطرة التي تتخذها حين تصبح شرطيا.

يسأل: “منذ متى وهي لديك؟”

“ذات صباح، منذ شهر تقريبا، وبدلا من بيتي في ميدلبري، فيرمونت؛ كنت فجأة في شقة هنا في المدينة، بألم قاتل في رأسي ونزيف فظيع من أنفي. في البداية، لم تكن لديّ فكرة عن أين كنت. ثم تذكرت… هذه الحياة أيضا. هنا والآن أنا عزباء، أعمل كمصرفية استثمار، وأعيش باسمي العائلي قبل الزواج. لكني أملك…” – تلملم نفسها بوضوح كي تقاوم عواطفها – “ذكريات عن حياتي الأخرى في فيرمونت. كنت أمًا لولد في التاسعة من عمره اسمه سام. كنت أدير مشروعا لتنسيق حدائق البيوت مع زوجي: جو بيهرمان. كنتُ آن بيهرمان. كنا سعداء كما يحق لأي شخص أن يكون”.

يسأل باري وهو يأخذ خطوة أقرب خفيةً: “وكيف يبدو الأمر؟”.

“ما هذا الذي كيف يبدو؟”

“ذكرياتك الزائفة عن تلك الحياة في فيرمونت”.

“أنا لا أذكر زفافي فقط. أذكر العراك حول تصميم الكعكة. أذكر أصغر تفاصيل بيتنا. ابننا. كل لحظة في ميلاده. ضحكه. الوحمة على خده الأيسر. يومه الأول في المدرسة وكيف كان يريد ألا أتركه. لكن عندما أحاول رسم صورة في خيالي لسام، يكون فيها باللونين بالأبيض والأسود. لا لون في عينيه. أقول لنفسي إنهما كانتا زرقاوين. ولا أرى إلا اللون الأسود.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى