شرفات

استلمت جثة أبي وقررت أن أقتل، فماذا فعلت ؟!

استلمت جثة أبي وقررت أن أقتل، فماذا فعلت ؟!

أيقظني هاتف غريب من شرود مبهم كان يسيطر علي، وأنا أتابع حديث أستاذي الصحفي الكبير عباس الحامض عن فنون الصحافة، وكان معجباً بأسلوبي، ويكتب لي على أوراق مادته الجميلة التي يقوم بتدريسها لنا:

ستكون صحفياً ناجحاً. ولكنه في تلك الظهيرة لاحظ شرودي، فسألني : لماذا لم تكتب اليوم؟ وكان صوته الضعيف يدخل في أذني مواسياً : الكتابة تحتاج إلى مزاج . غدا تكتب، لايهم !

ذلك الهاتف، جعلني متحفزا لشيء ما سيقع، فخرجت من القاعة، وقفت في الشارع وحيداً، مشيت عشرة أمتار، فاقتربت مني سيارة فيها عدة أصدقاء لأبي، طلبوا مني أن أصعد، فصعدت، وأخبروني أن أبي في المستشفى الفرنسي، وأن أبي أصيب في حادث، وهناك عرفت أنه توفي!

نعم ، قررت أن أرتكب جريمة، فأقتل من قتل أبي..

لا يمكن أن تغيب تلك الظهيرة عن ذاكرتي، أخذوني إلى قسم الشرطة، وقاموا بتسليمي أوراق أبي والأشياء التي في حوزته، وكتب الشرطي في الضبط قائمة الأشياء:

” استلمت مع الجثة قبعة صوفية، حمالة مفاتيح، هوية نقابية، مبلغاً وقدره ليرتان ونصف ليرة سورية فقط لاغير”

استلمت الأشياء، وتركت الجثة لينقلها أصدقاء أبي، ومشيت باتجاه ساحة العباسيين، شعرتُ بفراغ كبير، وبعجز عن التفكير، فلم أذهب إلى البيت، زرت بيت أحد الأصدقاء في ساحة العباسيين، ثم خرجت ومشيت عبر اتوستراد تشرين وطريق كلية الزراعة نحو بيتنا في مساكن برزة، وهناك وجدت جثة أبي وقد سبقتني، ووضعتْ على الأرض في غرفة الضيوف، وكان أبي أنيقاً، حلق ذقنه، ومشّط شعره ، ونام، وكان خيط ٌمن دم جاف سال من مؤخرة رأسه، وكأن الإصابة في نقرته!

جلستُ وحيداً مع الجثة، وكان البكاء يترامى إليّ من الغرف الأخرى، ومن أرض البيت، وهناك، عند جثة أبي، اتخذت القرار، وكان قراراً غريباً مفاجئاً: سأقتل من قتل أبي !

أعترف الآن بذلك، لأن زمناً طويلاً مرَّ على تلك الواقعة، فقد حصلت في شباط عام 1979، وأي جريمة ارتكبت وقتها ستسقط بحكم التقادم، وكان قراري حازماً، فكيف يمكن أن أقبل أن يموت أبي دون انتقام، لقد انتهى كل شيء .. كل شيء!

بدأت أخطط للجريمة لأنفذها، أخذت نسخة من الضبط الذي سجلته الشرطة عن الواقعة، ومنه عرفت تفاصيل الحادث، فقد تأخرت السيارة التي تقله إلى عمله، فقرر ان يسبقها سيراً على الأقدام، وعند همّ بقطع اوتوستراد تشرين صدمته سيارة مسرعة فقتلته، وجاء في الضبط شهادة لمواطن يركب مع سائق السيارة الذي تم سجنه، فسجلت عنوانه ، وقررت التوجه إليه !

حكى لي الشاهد الواقعة كما حصلت، فأبوك يا أخ ظهر فجأة أمامنا، وكان يقطع الأوتوستراد قبالة وزارة النفط، سيرا ً على الأقدام، وكنا في السيارة مسرعين، وعندما شاهدنا وقف في عرض الشارع، وكأنه يريد صد السيارة بيديه، وحصل ما حصل!

سألته بحزن:

ــ وهل أسعفتموه ؟! فأجاب:

ــ أشهد بالله أن سائق السيارة أوقف السيارة وهرع نحوه ، ثم حمله ونقله إلى المستشفى وكان يئن ويصرخ، وقد دفع سلفة للدخول، ولم يقصر!

وسألته من جديد:

ــ ومتى توفي؟!

فقال:

ــ انتظرنا تقديم الاسعافات إليه، لكنهم أخبرونا أنه مصاب بنزيف شديد، وتوفي بعد دقائق !

خرجت محبطاً، فهل يكذب الشاهد، وماهي مصلحته في الكذب؟!

توجهت إلى مكان وقوع الحادث، رأيت دمه مرشوشاً على الأرض، وقد مرّت فوقه سيارات كثيرة، وحاولت تصور الحادث، وكدت أستعيده وكأني موجود لحظة وقوعه، فإذا بي أعثر على فردة من حذاء أبي ، دهشت، فلم ينتبه أحد في البيت إلى أن أحد قدمي أبي كانت بلا حذاء!

حملت الحذاء ، وعدت إلى البيت، وإلى الآن أحاول جاهداً أن أجد سببا لأقتل من قتله، فما وجدت، وظلت فردة الحذاء زمناً طويلاً مركونة على السقيفة وكانت نظيفة لمّاعة ، وكأن أمي كانت تمسحها كل يوم!

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى