شرفات

اعذروني : حداداً على أرواحنا الميتة !

اعذروني .

فأنا لا أستطيع أن أرسل لكم بطاقة معايدة بمناسبة العام الجديد، هذه المناسبة عزيزة عليّ على قلوب الجميع، ليس لأنها تجمع الناس بحفلات صغيرة أو كبيرة، ولا لأنها عيد من أعيادنا، بل لأنها تجعلنا نلتفت إلى العمر الذي مضى والعمر الذي بقى لنا، ونتمنى أن يكون طويلاً !

كل واحد منا سيتذكر الآن، كيف كنا نهتم بتلك الليلة التي نجتمع فيها مع الأصدقاء والأحبة، وننتظر اللحظات التي تصل بين عامين، ثم نطلق صيحات الفرح بالعام الجديد، ونحضن بعضنا البعض، بحب بالغ لأننا نندمج مع لحظة الزمن الخالدة، اللحظة التي ابتكرها الإنسان  وهو يبحث في لعبة الزمن.

ونتذكر أيضا كيف يترامى رنين الهواتف الثابتة والنقالة لتبادل التهنئة مع الغائبين عن الاحتفال سواء داخل البلاد أو خارجها، وكيف تنساب الكلمات بصدق غريب، ليس فيه مواربة ولا خداع ، وكثيرا ما كنا في تلك اللحظة نشعر أننا نحب من نكره، لأنها لحظة خاصة جداً.

اعذروني.

فأنا هذه المرة، سأنام باكراً ليلة رأس السنة، ربما من الساعة العاشرة  قبل منتصف الليل، وسأكتب على دفتري كلمتين قبل أن أطفئ الضوء لأنام . نعم سوف لن أحكي لكم عن هاتين الكلمتين لأنهما خاصتين جداً لهما علاقة بالروح ، بروحي !

على ذلك الدفتر، أكتب الكثير، وأرسم القليل ، ومرة رسمت روحي..

هل جربتم رسم الروح على ورق ؟

أنا أفعل ذلك ، الروح على الورق هي خط ، أرسمها كخط دائري ، يبدأ من نقطة ولا يعود إليها، وعندما أرسمها كل عام، كنت أحاول أن ألون جزء من الخط بلون الزمن القادم، وأترك الجزء الباقي بلا لون لأنه ضاع، وصدقوني أنني لا أعرف لماذا أقوم بهذه اللعبة في كل سنة .

خطرت اللعبة على بالي، أيام السجن، عندما اكتشفت أن ثلاثة أرباع عمري قد مضت، وأن عليّ أن أتصرف بحنكة في الربع الباقي . ذلك الإحساس كان متفائلاً بالنسبة لي، وإلا ما كنت أصب اهتمامي على الربع الباقي الذي هو المستقبل ، وما كنت أفكر في أفضل استثمار لما تبقى من ذلك الخط .

السؤال الذي يراودني هذه الأيام مقلق وخطير، ومضمونه : ما نسبة الخط الذي ستلونه هذا العام ، وكم هي المساحة التي ستتركها من ذلك الخط ؟

الجواب كان مخيفا بالنسبة لي، فأنا لن أفعل كما في كل المرات فألون القسم الباقي من روحي ، سأتركه مثل حبل مشنقة مرمي في غرفة السجان، وكأنني أقول لنفسي: كفى ، ليس لي حاجة بما تبقى!

عرفتُ كل شيء في هذه الحياة مما يمكن للإنسان مثلي أن يعرفه : الحلو والمر ، الطري واليابس، الجوع والشبع، الجمال والقباحة، السفر والاستقرار، اليأس والأمل الحب والكره..

لم أعد أريد شيئاً ، فالخط عند نهايته.

ليس هناك مجال للحديث عن ثلاثة أرباع وربع.. الخط بلا لون ، ولكن سأغير رأيي هذه المرة، لن أتركه بلا لون،  رأيت أن ألوّنه بالأسود الغامق، حداداً على أرواحنا الميتة!

اعذروني ..  فأنا لا أستطيع أن أرسل لكم بطاقة معايدة !

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى