الإسـلام الـسـيـاسـي والـسـلـطـة: دور مـصــر عـربـي بـالـضــرورة (طلال سلمان)

طلال سلمان

 

يعيش الإسلام السياسي هذه الأيام مشغولاً بهاجس السلطة التي وجد نفسه قريباً منها مما يغريه بالاستيلاء عليها والتفرد بها، أكثر مما تشغله الإفادة من هذه الفرصة التاريخية لتقديم نفسه كعامل توحيد لقوى التغيير على قاعدة برنامج مشترك للنهوض بالبلاد والتخلص من التركة الثقيلة لدهر الطغيان.
ولقد تكشفت هجانة التسمية الاميركية لهذه الفورة الشعبية بـ«الربيع العربي» حين رفعت الأنظمة الجديدة الشعار الإسلامي محاذرة التلفظ بأي موقف يوحي بأنها معنية بالقضايا العربية ذات الأهمية الاستثنائية والتي كانت تشغل بال «شباب الميدان» في مختلف العواصم، وتحديداً في تلك التي نجح «الإسلاميون» في الوصول إلى سدة السلطة فيها بوصفهم اكبر أقلية منظمة.
فلا فلسطين، قضية مقدسة، ولا مصير شعبها المشرد خارجها أو الأسير في داخلها تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولا مشاريع التوسع الاستيطاني المحقق لشعار «دولة يهود العالم» الذي بات منهجاً ثابتاً للحكم في هذا الكيان الذي أقيم بالقوة على ارض الشعب الفلسطيني،
… ولا التدخل الاميركي الفظ في الشؤون الداخلية للدول التي أوصلت الانتفاضات الشعبية قوى الإسلام السياسي إلى السلطة فيها، نتيجة تبعثر قوى الميدان وعدم انتظامها في جبهة سياسية ذات برنامج مشترك للتغيير.
… ولا التركة الثقيلة التي خلفها حكم الطغيان وبين عناوينها الفساد الشامل والخراب الاقتصادي والتشويه الثقافي وتدمير التعليم من الروضة وحتى الجامعة، والتي يبرز دور مؤكد للنفوذ الاميركي فيها باعتباره مرجعية العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد الجديد.
لا واحدة من هذه القضايا الخطيرة تبدت مصدراً للقلق وبالتالي عنوانا لخطة ما، تدبير ما، لمعالجتها أو التصدي لنتائجها، بما يحقق شعارات التحرر واستعادة السيادة والقرار… فأنظمة الطغيان جميعاً كانت في حماية الهيمنة الاميركية أو تحت رعايتها المباشرة حتى الدقائق الأخيرة من الساعات الأخيرة قبل سقوطها المدوي.
ربما لهذا كله، أصاب الأنظمة الجديدة ارتباك عظيم في مواجهة الفيلم التافه الذي أنتجه اميركيون – إسرائيليون وروج له واحد من باعة أوطانهم، تصادف انه قبطي مصري، والذي يتعرض للدين الإسلامي ويعرض بنبيه العربي الكريم… وهكذا تخلوا عن النزول إلى الشارع، فتركوه للسلفيين، وعن «القرار» فتركوه لواشنطن التي ردت ذات يوم على «تدمير البرجين» في نيويورك بأن أعلن رئيسها السابق تجديد الحرب الصليبية!
ليس الفيلم التافه «قضية» ولا يجوز ان يكون..
القضية هي التوجهات السياسية التي تعتمدها الأحزاب التي استخدمت الشعار الإسلامي للوصول إلى السلطة، والتي ما تزال تعتمد الغموض في مواقفها، علماً بأن «الشارع» سوف يحاسبها من خلال قربها او بعدها عن مطالبه، سواء تلك المتصلة بحياته اليومية، أو تلك التي تؤكد له أن الانتفاضة قد أعادت إلى بلاده كرامة قرارها الوطني المستقل واعتماد النهج المؤكد لخروجها من دائرة النفوذ الأجنبي، سواء في سياستها الخارجية أو في اقتصادها فضلاً عن شؤونها الاجتماعية وهمومها الثقيلة.
وليس المطلوب القطيعة مع الولايات المتحدة الاميركية، مثلاً،
ولا المطلوب إعلان الحرب على إسرائيل، غداً،
ولا المطلوب تصدير الثورة الى سائر الأقطار العربية ومساندة حركات التحرر في آسيا وأفريقيا.
المطلوب، بداية، استبعاد سياسة الهيمنة على القرار الوطني عبر رفع الشعار الإسلامي في وجه الشركاء في الميدان والانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظام الطغيان… خصوصاً وان لهذا الشعار تطبيقات شتى تختلف في القاهرة عنها في تونس وعنها في ليبيا خاصة التي «تستولد» فيها قيصرياً تنظيمات إسلامية ليس لها تاريخ مميز في النضال من اجل التغيير.
والمطلوب، بالتالي، تسريع العمل لقيام جبهة وطنية متماسكة من القوى الحية في المجتمع، بينهم بطبيعة الحال من لهم تاريخ في مواجهة الطغيان ومن اجل التحرر الكامل من الارتهان للأجنبي.
لم تعرف البلاد العربية «نظاماً إسلاميا» قابلاً للحياة… فما فيها من أنظمة ترفع الشعار الإسلامي هي النموذج المجسم للطغيان عن طريق قهر الشعب بذريعة تطبيق الشريعة بواسطة «المطاوعة».
كذلك لم تعرف البلاد ذات الأكثريات الإسلامية نظاماً ديمقراطياً يعتمد الإسلام منهجاً فضلاً عن اعتماده شعاراً.
لم يكن الإسلام كدين منهجاً في أي يوم.. وحتى من حكموا بشعاره في الماضي، باستثناء الخلفاء الراشدين فقد مارسوا السلطة كملوك او كأباطرة.
وليس بغير معنىً ان الذاكرة الشعبية لا تحفظ من أسماء «الخلفاء» الذين صاروا أقرب إلى الملوك أو الأباطرة الذين كانوا يحكمون فيتحكمون بالشعوب قبلهم، إلا قلة قليلة ممن اعتبرتهم «صالحين» و«من أهل العدل».
لقد انتهى عصر الدولة الدينية… ولم يتبق من نماذجها إلا دولة الفاتيكان التي تشكل مرجعية دينية قد يكون لها بعض النفوذ السياسي ولكنها لا تحكم ولا تمارس السلطة، وقد اقتضى نزع السلطة منها شن أكثر من حرب غيرت مصائر دول في أوروبا، ولعلها استولدت دولاً لم يكن لها وجود من قبل.
ومع التقدير لخصوبة النقاش في مصر، على وجه الخصوص، حول طبيعة النظام الذي يليق بتضحيات شعبها العظيم من اجل حريته وتقدمه والدور القيادي لبلاده في محيطها، وهو حق محفوظ لها بقدر أهليتها على ممارسته، فان التخوف ما زال قائماً من احتمال اللجوء الى الإقصاء والاستبعاد لقوى ذات ثقل شعبي، برفع الشعار الإسلامي في وجهها، وكأن جمهورها الواسع لما يهتد إلى الدين الحنيف.
بالمقابل فان غياب او تغييب قضايا جوهرية كفلسطين، وبالتالي الاحتلال الإسرائيلي لأرضها وقهر إرادة شعبها، هو تفريط بالمقدس من دماء الشهداء المصريين على أرضها، وهو تخل عن دور عربي مرصود لمصر في قيادة العمل العربي في مرحلة ما بعد عودة الوعي إلى قمة النظام السياسي فيها.
وإذا كان الجمهور العربي قد اخذ على الرئيس المصري محمد مرسي تصرفه المرتجل والذي كان أشبه برد فعل على مضمر لم يعلنه، خلال قمة عدم الانحياز في طهران، فان هذا الجمهور ذاته قد استقبل بتقدير إصرار القاهرة على عقد اللقاء الرباعي – الذي كان قد اقترحه – لتدارس الخطوات الواجب اتخاذها لمحاولة إطفاء الحريق في سوريا الذي ينذر بمسلسل من الحروب الأهلية العربية بلا نهاية. وبالمقابل فان هذا الجمهور لم يتقبل قرار السعودية بمقاطعة هذا اللقاء، بمعزل عن مبرراتها التي احتفظت بها لنفسها.
ان سوريا هي الآن الجرح العربي النازف، ولا بد من المبادرة إلى مساعدتها للخروج من محنتها القاسية، اقله عبر العمل للحفاظ على وحدة كيانها السياسي، ولو في دولة مهدمة الجنبات، متصدعة المؤسسات، تهدد شعبها الفتنة في وحدته، وتقسيمه أديانا وطوائف ومذاهب مقتتلة.
وتدرك القيادة المصرية بالتأكيد أبعاد هذا الصراع الدموي المرعب الذي تشهده سوريا بين نظام متجبر وبين معارضات موزعة الولاء على قوى عديدة، فيها الأجنبي الطامع في استعادة هيمنته على المنطقة، وفيها أنظمة عربية يتآكلها الحقد أو تحركها الرغبة في الهيمنة بمالها وطموحها لان تكون الوكيل الحصري للمصالح الاميركية ـ الإسرائيلية المشتركة، فضلاً عن العدو الإسرائيلي الذي لا يخفي مشروعه التوسعي الذي يلغي وجود فلسطين وشعبها.
من هنا ضرورة أن تواصل القاهرة سعيها أقله من اجل حصر الكارثة القومية، ومن ثم معالجة أسبابها، مستخدمة دورها المفتقد والذي لم تعوضه فيه أي من الدول العربية الأخرى. ولعل اللقاءات على هامش التئام الجمعية العامة للأمم المتحدة تتيح الفرصة لمناقشات واسعة مع مختلف القوى والأطراف ذات التأثير، تنتهي الى صياغة مقترح لحل قابل للتنفيذ… قبل أن تلتهم النار ما تبقى من سوريا ثم تنتقل إلى جوارها الأقرب فالقريب ومن بعد إلى من يتوهم أنه في منجاة لأنه في البعيد البعيد.
وذلك أجدى بالتأكيد من اتخاذ قرار بحجب الفيلم الاميركي التافه المسيء إلى كرامة النبي… فكرامة النبي مصونة لا يطالها عمى المتعصبين أو أغراض الطامعين.
وكرامة هذه الشعوب العربية – الإسلامية المقهورة بالطغيان والتبعية والإذلال الوطني هي الموضوع وهي الأساس في انتفاضات الميدان مغرباً ومشرقاً وبين بين.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى