الاتفاق النوويّ.. من يتنازل أولاً؟

 

يحاول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تحريك المياه الراكدة، من خلال تقديمه مقترح العودة المتزامنة، أو بعبارة أدق عودة أميركا إلى الاتفاق والتزام طهران ببنوده.

لم يكن انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة العصا السحرية لحل أزمة الاتفاق النووي عبر رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران بعد عودة الولايات المتحدة إليه من دون تلكؤ أو تباطؤ، كما تفاءل البعض، على الرغم من المؤشرات الإيجابية التي ألمحت اليها تعيينات بايدن في البيت الأبيض، وتحديداً تعيين روبرت مالي مبعوثاً خاصاً للشؤون الإيرانية، والذي اعتبره كثيرون بمثابة تهيئة الأرضية لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، بحسب ما يقول مارك إبيسكوبوس في “ناشيونال إينترسنت“.

إلا أنَّ الجدلية التي ألقت بها تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن زادت النيات الأميركية تجاه طهران ضبابيَّة، كما فسّرها الكثير من الإيرانيين، رغم أنه كان جزءاً من الإدارة التي توسّطت وفاوضت مع إيران للتوصل إلى الاتفاق النووي في عهد باراك أوباما.

بلينكن الدبلوماسي المخضرم والوسطي، كما يصفه البعض، قال في تصريح لافت إن “إيران على مسافة أسابيع قليلة من إنتاج مواد تدخل في تصنيع الأسلحة النووية”، مشترطاً “عودة إيران إلى الالتزام بالاتفاق، لتقوم واشنطن بالسعي إلى بناء اتفاق أطول وأقوى يتناول مسائل أخرى صعبة للغاية”.

هذا الكلام يفهم في سياقاته الأميركية وتقاطعاته الأوروبية على أنه تناغم مع منطق الترامبية السياسية ومحدداتها لعودة “مريحة أميركياً” إلى الاتفاق الذي سيخرج عن إطار فيينا، كما خطّطت له وزارة الخارجية الأميركية آنذاك، إلى صيغة أكثر شمولية يكون البرنامج الصاروخي على رأسها، وهو ما استدعى كلاماً مباشراً من الخارجية الإيرانية، تؤكد فيه أن لا اتفاق آخر سوى الذي أبرم في فيينا في العام 2015.

لكن عامل الوقت هو العامل الضاغط على أطراف الاتفاق النووي، إذ سيشكّل الواحد والعشرون من شباط/فبراير منعطفاً مهماً، وهو موعد إلغاء العمل بالبروتوكول الإضافي الذي وافقت عليه إيران بموجب الاتفاق طوعياً، كما حدده مجلس الشورى الإيراني في قانون الإجراءات الاستراتيجية لإلغاء العقوبات، والذي صادق عليه بهدف صون المصالح الإيرانية والضغط على الطرف الأوروبي للالتزام ببنود الاتفاق، وعلى الطرف الأميركي للعودة إليه مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض.

وكلما تأخرت الأطراف المعنية في تحقيق اختراق في جدار الأزمة بعد هذا التاريخ، فقد يصعب على إيران إبطال مفاعيل إجراءات تقليص التزاماتها بسرعة من الناحية التقنية، الأمر الذي قد يدخل المشهد في تعقيدات جديدة.

بين التعيين والتصريح الأميركيين، لا يبدو أن إدارة بايدن ترغب في العودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات بالمجان من دون استغلال ما حققته إدارة ترامب من وهن في جسم الاقتصاد الإيراني، رغم حرصها على إنعاش الاتفاق تحت وطأة إرث أوباما والاعتقاد بأن الاتفاق هو خير وسيلة للتعامل مع إيران ومنعها من الوصول إلى إنتاج أسلحة نووية من جهة، وتحت ضغوط الشركاء الأوروبيين من جهة ثانية، الذين انتظروا وصول بايدن إلى البيت الأبيض لتنسيق المواقف مع الولايات المتحدة في ملفات عدة، ومنها الاتفاق النووي الإيراني، الذي ما يزال الأوروبيون يعتبرونه نقطة تحول أمنية واقتصادية مهمة.

لذلك، تحاول الإدارة الأميركية الجديدة المناورة والمراوغة لكسب امتيازات من خصم يبدو لها مرهقاً اقتصادياً.

وسط استاتيكية المشهد هذه، يحاول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تحريك المياه الراكدة، من خلال تقديمه مقترح العودة المتزامنة، أو بعبارة أدق عودة أميركا إلى الاتفاق والتزام طهران ببنوده، إلا أن اقتراح ظريف لا يخرج عن إطار الموقف السابق لصناع القرار في إيران، والذي حدد معالمه المرشد السيد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني، وهو عودة إدارة بايدن إلى الاتفاق ورفعها العقوبات عن إيران أولاً، على أن يلي ذلك عودة طهران عملياً عن خطوات تقليص التزاماتها التي بدأتها بعد عام على انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق، لكن الجديد الذي يقرأ بين ثنايا مقترح الوزير الذي اشتهر بحنكته الدبلوماسية وابتسامته التي تخفي وراءها شخصية هادئة واثقة دفعت الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى تحذير الأوروبيين منه، هو أن يتقدم الطرفان خطوة بخطوة في هذا الاتجاه، لطمأنة الأوروبيين بجدية بلاده في العودة إلى الالتزام بالاتفاق عملياً من دون أي تأخير، كما وعدت سابقاً منظمة الطاقة النووية الإيرانية على لسان رئيسها علي أكبر صالحي.

ولذلك، خاطب ظريف في مقترحه جوزيف بوريل، منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، على أن يكون راعياً لتنفيذ هذه الآلية وقطع الطريق على الجانب الأميركي الذي يظهر عدم الثقة بعودة طهران إلى الالتزام بدقة ببنود الاتفاق في جوانبه التقنية بالسرعة التي يتحدّث عنها المسؤولون الإيرانيون، بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في رفع مستوى تخصيب اليورانيوم وزيادة كمياته وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي وتركيب أجيال متطورة منها، خلافاً لما ينص عليه الاتفاق النووي.

لا شكّ في أن ظريف يحاول رمي الكرة في الملعب الأميركي، لكنه أيضاً يبحث عن مخرج لهذه الأزمة التي حملت حكومة روحاني أعباء كبيرة ومسؤولية أكبر عن مآلات الأمور والأوضاع في البلاد عقب الانسحاب الأميركي من الاتفاق، إنما ضمن محددات سابقة رسمها المرشد الإيراني ولا يمكن تجاوزها بالنسبة إلى هذه الحكومة، مهما كانت مندفعة لتحقيق إنجاز برفع العقوبات قبل حزيران/يونيو المقبل؛ موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية.

قد يستند ظريف في مقترحه إلى المثل الإيراني المعروف “الانتقال من هذا العمود إلى الآخر فرج”، لعله يحدث خرقاً في جدار الجمود قبل الواحد والعشرين من شباط/فبراير، لكن الأديب والمؤلف الإيرلندي جورج برنارد شو يقول: “كل الطرق تؤدي بك إلى ما تريد ما دمت راغباً في الذهاب”، والسؤال هنا: هل ترغب أميركا في العودة إلى اتفاق فيينا من دون أي تعديلات عليه، وقبل أن تعود إيران للالتزام ببنوده؟

من الصعب الإجابة بالتأكيد أو النفي عن هذا السؤال من دون المرور على عدة سيناريوهات، استناداً إلى المواقف والتصريحات الأميركية والأوروبية والإيرانية:

1- يبدو أنَّ الجانب الأوروبي يحاول تنسيق مواقفه أكثر مع إدارة بايدن حيال إيران للخروج بموقف موحد. وانطلاقاً من رغبة الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) بتوسيع نطاق الاتفاق النووي ليشمل قضايا أخرى، كالبرنامج الصاروخي وأمن المنطقة، قد يلجأ الطرفان الأوروبي والأميركي إلى وضع طهران أمام معادلة جديدة: الموافقة على مفاوضات أخرى أو فرض عقوبات دولية.

2- في ظل الرفض الإيراني القاطع للتفاوض على اتفاق آخر يشمل برنامجها الصاروخي تحديداً، قد يحاول الطرفان الأميركي والأوروبي إضافة قضية الأمن الجماعي في المنطقة، من دون التطرق إلى الملف الصاروخي مباشرة، وربما تُفهم، في هذا الإطار، تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ضرورة مشاركة دول في المنطقة، منها السعودية، في أي مفاوضات جديدة مع إيران. حتى الآن، ما يزال هذا السيناريو غير مطروح إيرانياً.

3- اعتراض طهران على التفاوض مجدداً على اتفاق آخر وتوسيع دائرة أطرافه، قد يدفع الأوروبيين إلى إقناع الأميركيين بالعودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات، على أن تلتزم إيران مجدداً ببنوده، ويصار بعد ذلك إلى التفاوض على تمديد القيود التقنية على البرنامج النووي ضمن اجتماعات اللجنة المشتركة للاتفاق النووي. ولا شك في أن هذا السيناريو سيلقى اعتراضاً من الجناح الأصولي القابض على مجلس الشورى.

4- عودة أميركا إلى الاتفاق ورفع العقوبات والتزام طهران مجدداً من دون أية تعديلات، مع اتفاق ضمني بين الأطراف الثلاثة، الأميركية الأوروبية الإيرانية، لعقد اجتماعات جانبية تهدف إلى بحث قضايا المنطقة الحساسة، وأمن “إسرائيل” والسعودية قد يكون جزءاً مهماً منها.

5- عودة سلسة لأميركا من دون أي شروط، وهو أمر مستبعد راهناً في ظل الموقفين الإسرائيلي والسعودي والرغبة الأوروبية في كسب المزيد من الامتيازات من إيران.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى