كلمة في الزحام

الاحتفاء في الافلاس

الاحتفاء في الافلاس:

عندما حاصرتنا أشباح كورونا، وعربدت ترهيبا وتجويعا وتعطيشا وقطعا للأرزاق، بل وتسترت، في بلاد مثل تونس، على عصابات ليلية تمارس النهب وتنشر الفزع بين الناس بذريعة الاحتجاجات على الوضع المعيشي، وكأن النهار لا يليق ب”نضالات” هؤلاء الذين سماهم أحد الأصدقاء ب”المناذلين“.

وسط هذه الأجواء المعفرة بالخوف والإحباط والشعور بالوحشة، كسرت الحصار الذي فرضته إجراءات الحجر الصحي، وخرجت من بيتي الذي صار أشبه بالبيجاما، خلعته خلفي وأنا حليق الذقن، متعطر ومتزين بحذائي ومعطفي الجديدين لعلني أصادف من يلقي نظرة إعجاب بهذا “النيولوك“.

ولجت الشارع الموحش فلم تنظر إلى هذا ” الديفيليه” سوى القطط والكلاب الشاردة. مضيت لا ألوي على شيء، غير أني تذكرت فجأة صديقا يسكن بجواري فقلت لنفسي: لم لا أفاجئه بهيئتي الجديدة وأمكّنه من رؤية معطفي وحذائي الجديدين، وكذلك أحظى لديه بسيجارة وكأس وقد أقفلت كورونا دكاكين ومحلات المدينة، أفرغت الجيوب، صدعت الرؤوس وأرهبت النفوس.

فتح لي صديقي الباب عن وجه شاحب وهو يقضم قطعة خبز حاف وقد بدا كلبه هزيلا ومحبطا مثله.

جلست في صالون بيته دون أن أخلع معطفي وأنا أضع الساق على الساق. نظر إلي وقال مبتسما: هذا المعطف الموقر يلزمه سيجار موقر، وهذا الحذاء المحترم تلزمه طريق محترمة، تعج بالمعجبين والمعجبات بخطواتك الواثقة والمترنحة أحيانا.

لست أدري إن كنت سألومه أو أشكره على هذه الكلمات الملتبسة، وبحثت فوق الطاولة على علبة سجائره فقال لي “لا تتعب نفسك” وأقسم بأغلظ الإيمان أنه لا يملك في بيته سيجارة واحدة، ولا حتى زجاجة ماء بسبب الإفلاس الناجم عن الحجر الصحي ثم غاب إلى المطبخ بخطى ثقيلة، وبقيت أنا وكلبه نتبادل أطراف الصمت.

أصبت بإحباط مضاعف، لكنه ممزوج ببعض المواساة الذاتية، فإن كان هذا الذي راتبه أفضل مني على هذه الحال من الفقر والعوز، فلأرض بما كتب لي الله، وأشكره حتى على معطفي وحذائي الجديدين.

ظهر صديقي من المطبخ وفي يده زجاجة شمبانيا فرنسية وسيجار كوبي من النوع الفخم.

كان الذهول سيد الموقف، وكدت أعتقد أن المشهد لا يعدو أن يكون من أضغاث أحلام مفلس في ليل كورونا، لكن الحقيقة توضحت حين أشعل لي السيجار بورقة صفصاف وبوقار شديد ثم ارتشفت من كأس كما لو أنني في حلم.

أومأت أسأله من أين لك هذا؟ فأجاب بهدوء الواثق: إنه الإفلاس الذي يجعلك تقتني أو تستهلك أنفس ما لديك أو ما كنت تدخره للياليك السوداء. وأعقب مبتسما “ثم أني أردت الاحتفاء بكم الثلاثة مجتمعين”

عدنا أنا وحذائي ومعطفي في تلك الليلة إلى البيت منتشين وواثقين من الغد والأصدقاء المخلصين.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى