الاختلاف في الرأي

 

لكم شغلتني هذه المسألة ! إن بساطتها محيرة لا تتكشّف لك مصاعبها دفعةً واحدة ، بل خطوة خطوة فإذا بك حيال معضلة ليس أشق من الحسم فيها .

لنفترض جدلاً أن الخلاف كان في قضّيةٍ اضطر أصحابها إلى اللجوء إلى القضاء و هكذا أصدر القاضي الأول حكما خالفه فيه القاضي الثاني ، حين عُرضت على قاض ثالث جاء بحكم آخر مخالف مع أن القانون المعتمد واحد ، فأي من الثلاثة كان على صواب ، و لماذا أصلا حدث هذا الخلاف؟

لا نخترع هذه الفرضية ذهنيا بل نستقيها من تراثنا القديم إذ يذكرهاالإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في كتابه ” نهج البلاغة ” حين يقول فيه :

(( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه و إلهُهُم واحدا و نبيهم واحد و كتابهم واحد )) صحيح أن الإمام قد قال ذلك في معرض شكواه من إختلاف العلماء في الفتوى و ضرورة الرجوع في أمور الدين إلى القرآن الكريم إذ يقول بعد ذلك : (( إن القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق لا تغنى عجائبه و لا تكشف الظلمات إلا به …)) و لكن المتأمل لا بد أن يستخلص من هذا القول مغازي هامة تتصل بموضوعنا حول ظاهرة الإختلاف في الرأي ، إن الإمام لم يشكك في صدق عقيدة القضاة بل يدعوهم إلى مويد من التأني و التفهم و لا نحسب إلا  أنهم فعلوا ذلك ، و مع ذلك فالتاريخ يثبت أن الخلاف في الرأي كان يقع بإستمرار بين العلماء و غيرهم مما يؤكد أنها ظاهرة بشرية لا مفرمنها ، و أنها باقية مادام البشر بشرا و إن لا فكيف وقع الخلاف بين المسلمين بالرغم من إمتلاكهم كتابا سماويا جامعاً مانعاً كالقرآن الكريم .

نصل هنا إلى نتيجة أساسية هي أن الإختلاف في الرأي ظاهرة بشرية طبيعية ، و أن غيابها أمر مصطنع بسبب أن خوف الناس من السلطان هو الذي يدفعهم إلى الإمتناع عن إبداء رأيهم الحقيقي مؤثرين الصمت و الطاعة للسلطة رغبةً في السلامة ، أو بتأثير التخلف و العوز و الحاجة إلى حد التماهي مع قطعان الغنم التي لا يشغلها سوى عم الحصول على قبضةٍ من عشب و جرعةٍ من ماء ، و هو المستوى الذي لا يمثل سوى الإنحطاط بكل مجالاته الفكرية و السياسية و الإجتماعية و النفسية ، و هذا يعني بالضرورة أن الإختلاف في الرأي ظاهرة تقدمية حضارية ذلك لأن الإختلاف بطبيعته دليل على حيوية المجتمع و قدراته على خلق الفرص الصحيحة لإبداع الأفكار الجديدة و الحلول الناجعة التي لا تظهر للعيان ، و لا تؤتي أكلها إلا من خلال الإختلاف الذي يحرض الفكر تلقائيا على الإجتهاد و الإبتكار طموحا إلى الغلبة في ميادين السجال و المنافسة .

و لكن هذا لا يعني بالتأكيد أن ليس للخلاف في الرأي أضراره إذ أن هناك حدوداً للخلاف لايجوز تجاوزها وإلا تفتت المجتمع ككيان متماسك ضد الفوضى و الضياع و أن جود مرجعية موثوق بها ضرورة تحدّ من أخطار الفوضى كالقرأن الكريم مثلا أو دستور البلاد و القوانين الصادرة بوحي منه و عندئذ لا خوف و لا من يحزنون مادام القضاء العادل هو الحكم الفيصل في الخلاف.

الرأي الآخر إذن هو الرأي المخالف بالضرورة و أن حضوره علامة على التقدم و أنه صفة أصلية في بنية البشر ، و مادام العلماء قد إختلفوا حتى في عهد الخلفاء الراشدين و لو طال ذلك العهد إذن لأمكن تعويد الرعية على إحترام الإختلاف في الرأي وصولا للإتفاق و المصالحة و لكن إحتكار السلطة على يد بني أمية أطاح بنظام الشورى الذي دعا إليه الرسول المسلم ” صلى الله عليه وسلم “أكثر من مرة و هو على فراش الموت و لم يعمل به من بعده خليفة راشدي سوى عمر بن الخطاب رضي الله عنه و هو الخليفة الراشدي الوحيد الذي فهم الشورى أكثر من غيره و هو يدعو إلى حرّية المواطنين في جملته الشهيرة التي انتقد بها والي مصر عمر بن العاص حين قال له : ” متى إستعبدتم الناس و قد و لدتهم أماتهم أحرارا ..؟!”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى