الانسحاب الأميركي من سوريا وأبعاده

 

أثار القرار الأميركي المُفاجئ بالانسحاب من سوريا، مترافقاً مع قرار آخر بتقليص قوة الاحتلال الأميركي في أفغانستان، الكثير من الردود والاستنكار والاستفظاع، في العاصمة واشنطن وفي العالم العربي. ولم يكن الموعد المحدّد لوصول تلك القوّة الأميركيّة إلى سوريا معروفاً، وهو حتماً سبق الإعلان الأميركي الرسمي عام ٢٠١٤، عندما وافق الكونغرس على برنامج «تدريب وتجهيز» فصائل في قوّات المعارضة المسلّحة. والتدخّل والاحتلال الأميركي قلّما يبدأ بصفة احتلال أو حتى تدخّل مباشر أو إعلان حرب، إذ إنه يُغلَّف دوماً بعناوين استشارة ومساعدة. هاري ترومان أطلق على الحرب الأميركيّة المّدمِّرة ضد كوريا الشماليّة «عمل شرطة» وكان الاحتلال الأميركي لفيتنام قد بدأ تحت شعار «الاستشارة العسكريّة» للأصدقاء المحليّين.

أسباب التزييف في عناوين التدخّل العسكري الأميركي هي دستوريّة، إذ إن الدستورَ يخوّلُ الكونغرس، لا الرئيس، صلاحيّة إعلان الحرب. وعليه، إن الرؤساء الأميركيّين عبر التاريخ زيّفوا حروبهم الخارجيّة بعناوين مختلفة حتى لا يحتاج الرئيس إلى تقديم طلب رسمي للكونغرس لإعلان الحرب. ولم يُعلن الكونغرس الحرب رسميّاً إلا في خمس حروب فقط (ضد بريطانيا وإسبانيا والمكسيك ثم الحربَين العالميَّتين) مع أن أميركا خاضت أكثر من ١٤٠ حرباً وتدخلات عسكريّة في تاريخها، أي أن أميركا كانت في حالة حرب (مُعلنة أو غير مُعلنة في الغالب) في ٢٢٠ سنة من تاريخها، وهذا نحو ٩٣٪ من تاريخها (يكفي أن نتذكّر أن أميركا غزت لبنان مرتين في القرن الماضي). هذه جمهوريّة حربيّة وهي لم تتوقّف عن شن الحروب، المباشرة أو غير المباشرة، وخصوصاً منذ انتشائها بنصر الحرب العالميّة الثانية.

كانت الثقافة العربيّة (من خلال الإعلام) في الخمسينيّات والستينيّات تعترضُ على التدخّلات الأميركيّة في شؤون البلاد، في حين أن الإعلام العربي اليوم (تحت سيطرة النظام السعودي والقطري بالغالب) بات يعيبُ على الحكومة الأميركيّة إحجامها وتردّدها وانكفاءها ــــ المزعوم ــــ حول العالم. وعناوين بعض الصحف القطريّة هذا الأسبوع كانت تعبّرُ عن حالة حداد لانسحاب القوّات الأميركيّة من سوريا. إن العدد الرسمي للقوّات الأميركيّة في سوريا هو ٢٠٠٠ جندي فقط، لكن العدد هو أكثر من ذلك لأن العدد الرسمي يشمل هؤلاء الذين يشاركون في مهمّات غير سريّة، فيما هناك حتماً قوّات إضافيّة تشارك في عمليّات سريّة غير مُعلنة للمخابرات والقوّات الأميركيّة. لكن التدخّل الأميركي في سوريا سبق موعد الإعلان الرسمي، وقد أخطأ الأستاذ في جامعة هارفرد ستيفن ولت، في مقالته في مجلّة «فورين بوليسي»، عندما لاحظَ أن أميركا لا تكترث لمَن يحكم سوريا. أميركا لها طبعاً تاريخ من التدخلات والانقلابات في سوريا ابتداء من عام ١٩٤٩، ومن المؤكّد أن انقلاب الانفصال عام ١٩٦١ كان بدعم وتدبير مباشر من الحكومة الأميركيّة وإن كان الإفراج الأميركي الانتقائي عن الأرشيف لا يشمل ذلك (بعد).

نحن نعلم من «ويكيليكس» اليوم أن الحكومة الأميركيّة بدأت الإعداد لقلب النظام السوري قبل اندلاع الانتفاضة الشعبيّة والحرب السوريّة (على الأرجح أن تأريخ الحرب السوريّة سيلحظُ انطلاق مسارَين مختلفَين فيها: مسارُ انتفاضة شعبيّة سوريّة حقيقيّة ذات بعد اجتماعي ــــ طبقي ــــ سياسي وهي مبنيّة على معارضة ظلم نظام تحوّلَ من جمهوريّة إلى حكم عائلة وراثي، ومسارٌ مختلفُ مُسيَّر من الأنظمة الخليجيّة والتحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي وهو استغلَّ الانتفاضة الشعبيّة، وقضى عليها في ما بعد، لتحقيق مآرب لا علاقة لها بالديموقراطيّة أو بإصلاح النظام السياسي في سوريا. والنظام السوري أراد خلط المسارَين لنفي الطابع الشعبي الحقيقي عن الانتفاضة، كما أن التحالف الخارجي خلط المسارَين ليُضفي على مؤامرته في التدخّل العسكري في سوريا طابع الانتفاضة الشعبيّة). نعلمُ اليوم أن الإدارة الأميركيّة في عهد بوش (إن لم يكن قبله) خطّطت لقلب النظام السوري وإثارة القلاقل في البلاد، لا بل إن تقريراً رسميّاً دبلوماسيّاً من ٢٠٠٦ يتحدّث عن استغلال جماعات جهاديّة ضد النظام، كما تحدّث عن إثارة الفتنة الطائفيّة (راجع الفصل الخاص بسوريا في كتاب «ملفات ويكيليكس»).

تفاصيل العمليّات السريّة لإدارة جورج بوش في سوريا لم يُكشف عن نقابها بعد، لكن إدارة باراك أوباما بدأت باكراً (بالاتفاق والتنسيق مع حكومة العدوّ وحكومتَي قطر والسعوديّة اللتين لم تكونا ــــ حسب «نيويورك تايمز» ــــ ترسلان أسلحة ومالاً إلى فصائل المعارضة المسلّحة من دون إذن من واشنطن) استغلال الوضع في سوريا لرفض أجندة ملائمة للتحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي. وأوكلت إدارة أوباما إلى المخابرات الأميركيّة عمليّات سريّة مع فصائل في المعارضة المسلّحة بقيمة مليار دولار في السنة. وعمليّات المخابرات كانت منفصلة عن عمليّات وزارة الدفاع الأميركيّة التي أدارتها قيادة المنطقة الوسطى من الأردن (بالتنسيق مع تركيا شمالاً). وقد نشرت أميركا قوّاتٍ لها في الأردن، وكان التجوال بين الحدود سهلاً في سنوات الحرب.

 

لم يُعلن الكونغرس الحرب رسميّاً إلا في 5 حروب فقط، مع أن أميركا خاضت أكثر من ١٤٠ حرباً، أي كانت في حالة حرب في ٩٣٪ من تاريخها

لكن موعد بداية العمليّات العسكريّة الأميركيّة يعود إلى زمن يسبق سنوات ٢٠١٤ و٢٠١٥، عندما بدأت الصحافة (بإذن من الحكومة) تسريب معلومات عن برامج تسليحيّة وتدريبيّة أميركيّة. وسيمور هرش تحدّث في مقالة في «لندن ريفيو أوف بوكس» (٧ يناير ٢٠١٦) عن أن العمليّات العسكريّة الأميركيّة بدأت في ٢٠١١ أو ٢٠١٢ عبر تهريب سلاح من ليبيا إلى سوريا (مصادر هرش في هذه المواضيع تعتمد غالباً على المخابرات الأميركيّة التي نجح هرش في بناء علاقة ثقة مع مصادر فيها عبر السنوات). لكن قرار الكونغرس عام ٢٠١٤ سرّعَ وتيرة المساعدة العسكريّة الأميركيّة للثوّار وزاد نوعيّة السلاح.

التدخّل العسكري الروسي، بالإضافة إلى تدخّل حلفاء النظام السوري، مقابل التحالف العريض الذي شكّلته أميركا ضد النظام، حوّل طبيعة الصراع وحوَّرَها وزاد في عناصر دوافع التدخّل العسكري الأميركي، لكن وجود القوّات الأميركيّة والروسيّة على أرض واحدة لم يكن محفوفاً بمخاطر المواجهة بينهما ــــ كما توقّع كثيرون ــــ ربّما لأن تفاهماً حدث بينهما على أصول اللعبة وعلى احترام الطرفَين دور الطرف الآخر في الحرب ضد «داعش» (وإن كانت الحكومة الأميركيّة وكل الإعلام الغربي يبالغون في حجم المساهمة الأميركيّة في الحرب ضد «داعش»). كما أن الطرفين أسّسا لقواعد لعب مبنيّة على احترام حق إسرائيل في العدوان على سوريا متى شاءت ولأسباب مختلفة (رغم إعلانات شحنات صواريخ روسيّة ورغم توقّعات في محور الممانعة بأن تنقلب روسيا على إسرائيل في أي لحظة ــــ كأن دوافع التدخّل الروسي في سوريا لها علاقة بالقضايا العربيّة أو الصراع مع إسرائيل ــــ فإن فلاديمير بوتين حريص جداً على مصالح العدوّ الإسرائيلي ليس في فلسطين المحتلّة فقط، وإنما في كل المنطقة العربيّة، وهو شديد الإعجاب ببنيامين نتنياهو، كما صرّح بذلك دونالد ترامب بعد لقاء القمّة بينهما). كان قرار ترامب مفاجئاً ولم يعرف به كثيرون قبل صدوره (كالعادة، كان نتنياهو من القلّة التي علمت بقرار ترامب قبل صدوره، لكن إعلام الحكومة الإسرائيليّة بالقرارات الأميركيّة المهمة في السياسة الخارجيّة قبل صدورها بات عرفاً من الأعراف السياسيّة الأميركيّة. وكان جون كيري في المفاوضات التي خاضها للتوصّل إلى الاتفاق النووي الإيراني يتحدّث على الهاتف مع نتنياهو بصورة دوريّة، وكانت وفود أميركيّة رسميّة تنتقل إلى فلسطين المحتلّة للأخذ بالنصائح والإرشادات الإسرائيليّة). لكن ترامب يبدو أكثر حزماً وأكثر ثقة بالنفس بعد مرور سنتين على حكمه. يشعر بأنه بات يستطيع أن يعارض مشيئة جهاز الدولة العسكري ــــ الاستخباري، وهذا من الممنوعات في السياسة الأميركيّة، وخصوصاً بعد تشكّل دولة الحرب الأميركيّة بعد ١١ أيلول. وثارت ثائرة الحزبين في الكونغرس ضد قرار ترامب، كما أن جوقة الصحافة السائدة وخبراء مراكز الأبحاث ومنظمات الاتجار بحقوق الإنسان مُجمعة على ضرورة الاستمرار في الاحتلال الأميركي في سوريا والعراق إلى ما لا نهاية. لا يرى ترامب ذلك، وهو نفّذَ ما فشل أوباما في تنفيذه من وعوده.

إن العناصر الأساسيّة الحقيقيّة في سياسة ترامب الخارجيّة كانت ــــ ولا تزال ــــ متأثّرة بالسياسات الخارجيّة التقليديّة للحزب الجمهوري قبل عهد ريغان؛ كان الحزب الجمهوري يمثّل سياسة الانعزاليّة والانكفاء في السياسة الخارجيّة قبل أن يسيطر يمين ريغان الجديد على الحزب ويُدخله في تحالف مع المسيحيّين الإيفانجيليّين. ترامب كان من معارضي الحروب الأميركيّة حول العالم ودعا إلى سحب الجنود الأميركيّين من الشرق الأوسط ومن كوريا الجنوبيّة ومن أوروبا لتوفير مال الخزينة وللابتعاد عن صراعات لم يرَ أنها تعود على الشعب الأميركي بالفائدة. وفيما كانت هيلاري كلينتون من صقور الكونغرس في تأييد الحروب والتدخلات الخارجيّة، كان ترامب من أوّل المجاهرين بمعارضة الحرب في العراق (التي حازت تأييد نسبة ٧٠٪ من الشعب الأميركي، فيما كانت نسبة تأييد الحرب ضد أفغانستان نحو ٩٠٪). وكان أوباما قد وعد بإنهاء الحرب في العراق وسحب الجنود من هناك، بالإضافة إلى أفغانستان (كما وعد أيضاً بإغلاق معسكر غوانتانامو). لكن أوباما خنث بوعوده ورضخ لمشيئة القيادة العسكريّة (التي أرادت إبقاء القوّات الأميركيّة وتعزيزها في العراق وأفغانستان، لكن القوى السياسيّة في العراق رفضت الوجود العسكري الأميركي على أراضيها، ما جعل من نوري المالكي ــــ الذي كان مرشحاً أميركيّاً يخضع لامتحان أسبوعي من بوش حول ما يفعله في بغداد ــــ شخصيّة مكروهة أميركيّاً).

تزامنَ قرار ترامب الجريء ــــ بالمقياس الأميركي ــــ مع قراره بالتخلّص من وزير دفاعه وتمتّعه بوزير خارجيّة مُطيع. واستقال المبعوث الأميركي لشؤون محاربة «داعش» (قبل أشهر فقط من تقاعده) اعتراضاً على قرار ترامب. وردّ فعل الإعلام الأميركي والكونغرس يظهر الوضع اللاديموقراطي الذي وصل إليه النظام السياسي الأميركي. يعترض ممثّلو الشعب هنا على قرار للرئيس المُنتخب (الذي هو القائد الأعلى والوحيد للقوّات المسلّحة، والذي تخضع له كل مؤسّسات فروع القوّات العسكريّة والاستخباريّة) إذا ما أتى معارضاً لمشيئة القيادة العسكريّة ومزاجها (غير منتخبة وهي دستوريّاً تنفّذ القرارات ولا تصنعها، ودورها في السلطة التنفيذيّة استشاري محض). لكن شعبيّة ــــ أو عبادة ــــ المؤسّسة العسكريّة من الشعب الأميركي تجعل معارضة مشيئة قيادتها من الممنوعات السياسيّة، وخصوصاً من الحزب الديموقراطي الذي يُعتبر تصلّبه وتطرّفه في مسائل الأمن القومي مشكوكاً فيه من العامّة البيض.

إن انسحاب ترامب من سوريا يعود إلى فقدان صبره من وعود آلة الحرب الأميركيّة حول إنجازات مهمة وتحسّن في الأوضاع في سوريا وأفغانستان (التحسّن بمقياس نشر النفوذ والهيمنة الأميركيّة). والقيادة العسكريّة باتت تلجأ إلى حيلة معروفة عندما يخالف رئيس أميركي ــــ أي رئيس ــــ مشيئتها، إذ يعمد القادة العسكريّون الكبار إلى تسريب خبر معارضة الرئيس لمشيئة القيادة إلى الإعلام قبل صدور القرار الرسمي، ما يشكّل حالة ضغط عارمة من الكونغرس والإعلام والرأي العام، وهذا يؤدّي أحياناً إلى عكس قرار كان الرئيس يزمع اتخاذه (هذا ما حدث في إدارة أوباما الذي كان يريد أن يقلّص الوجود العسكري في أفغانستان، لكنه عاد ورضخ لمشيئة القيادة العسكريّة ووافق على زيادة عدد قوّات الاحتلال هناك. ومن الأكيد أن الوضع في أفغانستان لم يتحسّن وأنه لا يفصل بين استيلاء حركة «طالبان» على البلاد إلا الوجود الأميركي فيها).

أعلن ترامب في تسويغ قراره بالانسحاب من سوريا هزيمة «داعش»، ولا شكّ أن «داعش» مُني بهزيمة محقّقة في سوريا والعراق ولبنان (الدور الذي كان وسام الحسن يقوم به، بالتفاهم مع الحكومة الأميركيّة وحكومات الخليج، كان سيؤدّي إلى اختراق كبير في الساحة اللبنانيّة من قبل «داعش» و«النصرة» وخصوصاً أنه كان مسؤولاً عن تهريب مقاتلين وسلاح إلى سوريا في بداية الأزمة فيها، وهو ــــ رغم تفجّع ونحيب بعض الإعلاميّات اللبنانيّات عليه على الهواء ــــ مسؤول عن دماء لبنانيّة وسوريّة). لكن معارضي قرار ترامب، وخصوصاً الفصائل السوريّة المسلّحة التي تقف معزولة بعدما تخلّت أنظمة الخليج عنها، وبعدما باعتها الدول الغربيّة بعد استنفاد أغراضها، يتمنّون بقاء القوّات الأميركيّة لتعزيز الموقف التفاوضي للمعارضة السوريّة. وقد واجهت الإدارة الأميركيّة ضغوطاً إسرائيليّة (وصهيونيّة أميركيّة) من أجل الحفاظ على وجود أميركي عسكري في سوريا.

الصحافة الأميركيّة ساقت من جملة اعتراضاتها على قرار ترامب الخيبة الإسرائيليّة من القرار. «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» استفاضتا في الحديث عن عزلة إسرائيل والتخلّي عن إسرائيل والتوتّر الإسرائيلي من جراء الانسحاب الأميركي. لكن لو كان الأمر بيد إسرائيل، فإن على الولايات المتحدة نشر قوّات في كل البلدان العربيّة لحماية مصالحها ولضرب أعدائها. والوجود الأميركي في سوريا لم يكن متعلّقاً بضرب أعداء إسرائيل، بقدر ما كان مرتبطاً بالأجندة الأميركيّة في السيطرة على مقدّرات الشأن السوري عندما كان الافتراض السائد هنا أن النظام على وشك السقوط وأن ما على أميركا إلا أن ترث السلطة وتسلّمها لوكلائها المحليّين بالتوافق مع النظامين القطري والسعودي (أدّت الإدارة الأميركيّة على امتداد الصراع السوري المُدمِّر دور الحكم والمُصلح بين النظامين اللدودين، وكان تركيب دكاكين المعارضة الخارجيّة يعكس الرغبة الأميركيّة في الموازنة بين مصالح قطر والسعوديّة، وبين مصالحها هي).

تسود تساؤلات كثيرة هنا حول أبعاد القرار، والإعلام الأميركي نشر مبالغات فظيعة عن حجم المساهمة الأميركيّة (أو ما يُسمّى هنا قوّات «التحالف» كي لا ننسى مساهمات السويد والنروج والبحرين والدنمارك) في الحرب على «داعش». وقد دخلتُ في نقاش عقيم قبل أيّام مع مراسلة «نيويورك تايمز»، روكميني كاليماشي (المتخصّصة في شأن الحرب على «داعش»)، إذ نشرت أن قوّات «التحالف» هي التي طردت «داعش» من ٩٩٪ من الأرض التي كانت تحت سلطتها في سوريا والعراق. وعندما سألتُها عن هذا الرقم، لم تعطِ إجابة محددة وقالت إنها أدخلت في حسبانها المساهمات الكرديّة والقوات النظاميّة العراقيّة في المعادلة. أي كالعادة، لا تريد أميركا أن تعترف بأن القوات المعادية لها في المنطقة العربيّة هي التي ساهمت بالقسط الأكبر من الحرب الفعالة ضد «داعش» (كما ساهمت فيها قوّات مُتعارِضة في الحرب السوريّة، على المقلبين). وفي حسبان مختلف الأدوار في هزيمة «داعش»، يمكن اعتبار الدور الأميركي أنه كان الأقل فعالية لأن أميركا كانت تكتفي بالقصف الجوّي، فيما دفع الأكراد نحو ١٠٠٠٠ ضحيّة في الحرب (خسرت أميركا أربعة جنود في الحرب نفسها). لكن تقويم المعركة يجب أن يدخل في حسبانه العدد الهائل من الضحايا المدنيّين من السوريّين والسوريّات والعراقيّين والعراقيّات. لقد قتل القصف الأميركي في الحرب ضد «داعش» بين ١٨٤٥٦ و٢٨٠٩٣ مدنيّاً ومدنيّة في سوريا والعراق، حسب تقديرات موقع «إيروورز» الموثوق. وتدمير الرقّة جريمة حرب فظيعة تُضاف إلى جرائم الحرب المتراكمة في الحرب السوريّة.

إن التدخّل العسكري الأميركي في بلادنا، وفي غيرها، يكتسي شرعيّة لا تكتسيها تدخّلات من دول أخرى. تنطق أميركا باسم «شرعيّة دوليّة» وباسم «مجتمع دولي»، ويستبطن دعاة الاستعمار الأميركي في بلادنا هذا الخطاب فتصبح الأوامر والضغوط الأميركيّة «مشيئة المجتمع الدولي»، كأن ما يصدر عن أميركا (وأوروبا المنصاعة لها) خضعَ لمشورة دول أميركا اللاتينيّة وآسيا وأفريقيا. فاجأ المفكر اليساري العالمي، نوم (أو نعّوم في الصحافة العربيّة) تشومسكي، مريديه حول العالم قبل أيام عندما أعلن ــــ للمرّة الثانية هذه السنة ــــ تأييده الاحتلال العسكري الأميركي في سوريا باسم «حماية الأكراد». ومتى نقرّر كيف وأين تتوجّب المطالبة بتدخّل أميركي باسم حماية هذه الأقليّة أو تلك؟ وماذا عن حماية الأكثريّات؟ هل أبناء الأكثريّات وبناتها أدنى مرتبة في الإنسانيّة من الأقليّات؟ ولا يختلف منطق نوم تشومسكي عن مواقف مسؤولي الإدارات الأميركيّة الليبراليّين، مثل سامنتا باور، الذين واللواتي يطالبون بحروب وتدخلات عسكريّة أميركيّة حول العالم من منظور «الإنسانيّة». ثم متى كانت دوافع التدخلات الأميركيّة في أي بقعة في العالم إنسانيّة؟ ومتى أدّت التدخلات الأميركيّة إلى حل المشكلات لا إلى تفاقمها؟ وكم مات من الأبرياء في العمليّة الأميركيّة الإنقاذيّة في سوريا؟ ثم، ألا تكفي التجارب التاريخيّة العديدة كي نحكم على الرعاية الأميركيّة للأكراد بأنها زادت معاناة الأكراد، وانتهت دوماً إلى تخلٍّ وخداع أميركي نحوهم، وتركهم لأعدائهم؟

الأكراد ليسوا من دون حيلة، وتتحمّل القيادات السياسيّة للأكراد في العالم العربي المسؤوليّة عن تحالفات وخيارات سياسيّة زادت معاناة الأكراد، وزادت معاداة العرب لقضيّتهم العادلة. هل القيادة البارازانيّة القبليّة التقليديّة تتوقّع أن ينظر العرب بعين الرضى إلى تحالفها الصفيق مع أعداء العرب بمن فيهم العدوّ الإسرائيلي؟ إن تحالف أقليّة مع أعداء العرب يزيد ولا يخفّف معاناة تلك الأقليّة. ومن المشكوك فيه أن تكون قوّة أميركيّة قوامها ألفا رجل تكفي لحماية الأكراد من أعدائهم الكثر. وماذا عن الحليف الأميركي، التركي الذي لا يقلّ معاداة للأكراد عن «داعش»؟

إن الانسحاب الأميركي من سوريا مؤشّر على نزعة استقلاليّة فرديّة جديدة في إدارة ترامب. هذه النزعة أغضبت إسرائيل وحلفاء أميركا من العرب. لكن القول إن سحب ٢٠٠٠ جندي يُنهي التدخّل العسكري الأميركي في سوريا مبالغ فيه. لأميركا حلفاء ووكلاء مطيعون، كما أن القواعد العسكريّة الأميركيّة المنتشرة في المنطقة (وقطر خير مُضيف لها) تسهّل لها تنفيذ ضربات عسكريّة متى شاءت. لكن مرّة أخرى منذ ٢٠٠١ يُسجّل لأميركا أن تدخلها العسكري فشل في تحقيق أهدافه. وهذا يزيد المعاناة النفسيّة لأنظمة الخليج ومثقّفيها من الليبراليّين العرب.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى