التغييرات داخلياً وإقليمياً ودولياً

تقف المملكة العربية السعودية أمام مرحلة جديدة من تاريخها الممتد حتى عام تأسيسها 1932، بعد وفاة العاهل الراحل عبد الله بن عبد العزيز أمس الجمعة عن واحد وتسعين عاما. وتكتسب السعودية أهميتها الاستثنائية إقليميا ودوليا من حيث كونها المصدر الأكبر للنفط في العالم ومالكا لخمس الاحتياطات النفطية المؤكدة حول العالم، ما يجعلها مؤثرة للغاية في سوق النفط الدولية. كما أن وجود المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة يكسب السعودية مكانة روحية خاصة للمسلمين. بالإضافة إلى ذلك تقود السعودية محوراً في الصراع الإقليمي الدائر ولها نفوذ في ساحات الصراع الإقليمي في طول وعرض المنطقة. من هنا تهتم الدول الكبرى ودول المنطقة بالتطورات في المملكة، نظرا لتأثيرها الكبير على قضايا وملفات داخل وخارج الإقليم.

التوازنات داخل العائلة الحاكمة

لم يكن اعتلال صحة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز سراً خافيا، بل معضلة مذاعة على الملأ من زاوية ترتيبات انتقال السلطة بمعناها الأشمل. وإذ تولى ولي العهد سلمان بن عبد العزيز (80 عاما) العرش السعودي، كما تولى أخوه غير الشقيق مقرن (70 عاما) ولاية العهد مثلما كان مقررا وفقا لإرادة الملك الراحل، إلا أن عمق المعضلة تمثل في الصراع بين الأمراء السعوديين من الجيل الثالث، أي أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز، وبالأخص بين قائد الحرس الوطني متعب بن عبد الله نجل الملك الراحل من جهة، ووزير الداخلية محمد بن نايف نجل ولي العهد الراحل نايف بن عبد العزيز من جهة أخرى. سلك الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز طريقا متعرجا كي يعبد طريق العرش من بعده لابنه الأمير متعب، وكان واضحا أن مساعيه تصطدم بجناح وازن في العائلة السعودية الحاكمة، أي الأمراء السديريين، والأخيرون هم الأمراء أبناء الملك المؤسس عبد العزيز ابن سعود من زوجته المفضلة حصة السديري (أبرزهم الملك فهد وولاة العهد السابقون سلطان بن عبد العزيز ونايف بن عبد العزيز والملك الحالي سلمان بن عبد العزيز). لذلك اخترع الملك الراحل «مجلس البيعة» العام 2007 ليتولى تعيين ولاة العهد في حال وجود شواغر، وهو الأمر الذي تكرر مع وفاة الأميرين سلطان ومن بعده الأمير نايف. وقبل سنة، عين الملك الراحل الأمير مقرن ولياً لولي العهد سلمان بن عبد العزيز، متخطيا الأمير أحمد بن عبد العزيز الأكبر سنا، مع ملاحظة أن الأمير المستبعد أحمد ينتمي بدوره إلى الفرع السديري. وبالتوازي مع ذلك، أجرى الملك الراحل سلسلة تغييرات في وزارات الدفاع والاستخبارات من نواب الوزراء لإضعاف الجناح السديري، ولعل أشهرها إعفاء الأمير خالد بن سلطان في نيابة وزارة الدفاع. ولم يكن لهذه الخطوات سوى تفسير واحد، مفاده أن الأمير مقرن الذي لا يملك نفوذاً قبليا في السعودية (والدته يمنية) سيسمى في حال اعتلى العرش متعبا ولياً للعهد، وينفذ رغبة الملك عبد الله بعد حين بتولية ابنه.

كان لافتا أن بيان الديوان الملكي السعودي قد قرن البيعة للملك الجديد سلمان بالبيعة لولي عهده مقرن وفقا لقرار الملك عبد الله العام السابق – بحسب نص البيان الملكي -، ما يعكس رغبة الملك الراحل. ولكن المفاجأة تمثلت في قرار الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز بتعيين الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد، بالتوازي مع إقالة خالد التويجري من رئاسة الديوان الملكي والحرس الملكي وتعيين ابن الملك الجديد الأمير محمد بن سلمان في مكانه، بعد دقائق من إعلان وفاة الملك عبد الله. هكذا، وقبل أن يوارى جثمان الملك الراحل الثرى في مقابر الرياض، تم حسم الخلافة بمعناها الأشمل لتصبح سديرية بامتياز. هنا يمكن استنتاج أمرين: الأول أن الكلمة المتلفزة للملك الجديد التي يعترف فيها بولاية الأمير مقرن للعهد (عراب الأمير متعب) قد سجلت قبل وفاة الملك عبد الله ما يبعث على اطمئنان ابنه متعب، والثاني أن العجلة في قرارات الإقالة وتعيينات ولاية ولاية العهد والحرس الملكي والديوان الملكي بعد إذاعة بيان الديوان مباشرة، تعود إلى موعد مساء أمس المحدد لتلقي بيعة القبائل للملك الجديد وولي عهده وولي ولي عهده، وبالتالي إعطاء المشروعية القبائلية للأمير محمد بن نايف. ربما يستمر الأمير مقرن ولياً للعهد وربما لا يستمر، ولكن ذلك لن يغير من موازين القوى الجديدة التي تقول إن الجناح السديري قد امتلك السلطة من خلال الملك الحالي سلمان أو من خلال الأمير محمد بن نايف من بعده، وأن الملك الراحل يوارى الثرى ومعه حلمه بتولية ابنه، علماً أن الأمير متعب ما زال رئيساً للحرس الوطني برغم استبعاده من ولاية العهد.

التداعيات الإقليمية

رحل الملك السابق عبد الله في ظرف عصيب سعوديا، بعد ظهور «داعش» وتمددها في سوريا والعراق ودخول الحوثيين إلى العاصمة اليمنية صنعاء، ما يضع السعودية والحلف الذي تقوده في ساحات الصراع بالمنطقة في موقف المدافع. ومع استمرار المفاوضات بين إيران (خصم السعودية الإقليمي) وأميركا (الضامن الدولي للأمن السعودي) ازداد الضغط على الرياض، ما اضطرها إلى لعب ورقة النفط في مواجهة إيران بتخفيض الأسعار إلى مستويات قياسية. على الأرجح أن إيران كانت تفضل متعبا، مثلما ألمح بعض الخبراء، لعلمهم أنه سيلقى مقاومة داخلية من الجناح السديري في حال تنصيبه ملكا، ما يكبح أكثر قدرات السعودية في المواجهة الإقليمية المشتعلة بين طهران والرياض. المرجح أن السعودية ستستمر في الخطوط الإقليمية العامة لسياساتها، لكن مع منحى أكثر تصلبا في اليمن وسوريا ولبنان. والمرجح أيضاً أن تظهر «السياسات الجديدة» على الساحة اليمنية بتجميع التركيبة التقليدية الحليفة للسعودية في مواجهة الحوثيين، مع تصليب المواقف حيال حلول التسوية للأزمة السورية. وعلى مستوى حلفاء السعودية في لبنان، فالأرجح أن يتعزز حضور الرئيس السنيورة والوزير المشنوق في مواجهة الشيخ سعد الحريري الذي تدهورت علاقته مع الأمير محمد بن نايف قبل سنوات. وسيبقى موضوع الحوار مع إيران قائما من المنظور السعودي، طالما استمرت المفاوضات النووية بين إيران وأميركا، لكن إمكانية التوافق الإقليمي بين السعودية وإيران ستظل بعيدة التحقق، مثلما كانت في عهد الملك الراحل عبد الله، إن لم يكن أبعد، مع عدم استبعاد عقد جولات حوار بين الرياض وطهران يصعب أن تؤدي في الفترة المقبلة إلى نجاحات تسووية في الملفات الإقليمية العالقة.

التأثيرات الدولية

نظرا لكون الحكم السعودي مؤسسة متشابكة وبسبب التحالف العضوي منذ العام 1945 أيام الرئيس الأميركي الراحل هاري ترومان والملك الراحل المؤسس عبد العزيز بن سعود، فلن يتغير موقف الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز من التحالف السعودي الكامل مع الولايات المتحدة الأميركية، مع استمرار السياسة النفطية السعودية للملك الراحل بالحفاظ على خفض الأسعار الجاري الآن في السوق الدولية، وتعزيز علاقات السعودية مع اللوبي النفطي في الولايات المتحدة الأميركية القائمة منذ عقود طويلة كأهم ورقة من أوراق القوة السعودية.

الخلاصة

دارت معركة كبرى على الخلافة في السعودية، قبل إعلان الوفاة وبعدها، برغم كل اللياقات الشكلية التي ترافقت مع جنازة الملك عبد الله، ومفردات وحدة الصف والتوازن والاعتدال التي تواكبت مع كلمات التأبين. ثبت الجناح السديري في العائلة المالكة السعودية سلطته لأجل غير معلوم مطيحا بطموحات الملك الراحل في تولية ابنه متعب، وفقا لمؤشرات القوى في اللحظة الحالية. يملك الملك السعودي سلطة القرار وله أوسع الصلاحيات، ما يجعل بصمته واضحة على الشؤون الداخلية والإقليمية. لذلك، ستظهر بصمة الملك سلمان بن عبد العزيز على سياسة السعودية الإقليمية في المدى القريب، نظرا لتسارع الإيقاع في الإقليم.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى