التكفير أولاً.. والتحرير أخيراً؟

أيهما أولاً، الاحتلال الصهيوني لفلسطين، أم الجحافل التكفيرية الظلامية؟ أيهما أشد خطراً وأيهما داهم ولا يحتمل التأجيل؟

ما الفارق بين خطر دائم هامد، وخطر مستحدَث يتأجّج، وتسجل جحافله وجرائمه واجتياحاته، تبديلاً للجغرافيا، تهديماً للكيانات، تفجيراً للمجتمعات، تقتيلاً للأقليات، تهجيراً للسكان الأبرياء؟

ما الفارق بين خطر عاقل، لا يلجأ إلى الجنون إلا في حالات نادرة، ويتقيّد بقواعد الاشتباك، ويخوض المعارك ليرسي حلاً إن استطاع، وبين خطر فالت من عقاله، يمارس العنف الاقتلاعي، لأهله وأهل بيته ومؤمني دينه ومساكني مدنه وقراه، بهدف إقامة نظام إسلامي، يتشبّه بعصر الدعوة وأصول تقليدها، من دون اعتبار لزمن أو تاريخ أو تغيير، يختار من «الرسالة» ما يناسبه من تفسير، ومن التقليد ما يسند أفعاله ومن «الحديث» ما يُفتي بقتاله، أو، باختصار، ما الفارق بين خطر إسرائيل الدائم، غير المستعِر، وبين خطر الحركات التكفيرية الداهمة والمستعِرة والتي تطرق أبواب المدن وتسقط أسوارها، وتقضّ مضاجع الحضارة والتراث، وتستأصل من الحاضر، معظم ما أرساه الماضي، من تقدّم وفكر وإنسان؟

المسألة ليست نظرية. هذه مسألة عملية، والخطأ فيها، أو التهاون في تحديدها، عبر إلباس الواقع ما نختاره له من أزياء أيديولوجية، وحجج تبريرية، مكلفة جداً. وقد تصل إلى حدّ التكلفة الوجودية.

ليس المطلوب، في هذه الحقبة الجديدة، كل الجدّة، في تاريخنا الحديث، أن ننصرف إلى التصنيف وإلى الكتب السميكة، كي نميّز بين خطرين،
وليس مبالغة القول، بين مخاطر متراكمة ومتوالدة، يوماً بعد يوم، وواقعة بعد وقائع. فمنذ أسبوعين، يختلف عما بعد يومين.

أيّ قاعدة وأيّ نهج لتحديد الأولويات؟

أولاً، تحديد المعنيّ بالأولوية. هل هو الأمة في مراميها المعتقدية أم هو حال الأمة في ما قبل نهاياتها؟ هل المعنيّ بالأولوية، أنظمة ثبت من خلالها إصرارها على التمسك بالسلطة، أن أولويتها هي في بقائها، ولو فنيت الأمة عن بكرة حضارتها وإنسانها؟ أم المعنيّ تجديد الأولويات، أحزاب غاربة تعيش خبزها كفاف بؤسها؟ أم هو «الربيع العربي» المغادر والمغدور بيد أهله وأنظمته ومذاهبه وعسكره؟ أم المعنيّ، هو الحركات التكفيرية، التي تؤكد أولوية الماضي الفادح وأولوية إلغاء الحاضر ومنع المستقبل، عبر تدمير كل إمكان، وتأبيد كل تقليد؟ لكل أولوية صاحبها، وهو الذي يحددها ويربط سياسته وأفعاله وجهوده لتحقيقها.

إذاً، المرجعية أساس في التحديد. ووحدة القياس عندها، هي انخراطها في الميدان العملي، ومقدار قدرتها على خدمة أولويتها، وتأمين عناصر انتصارها وتثبيتها. لا أولويات من دون التزام. تلك خرائط طرق لا يسلكها أحد. تلك خطط توضع في الأدراج. تلك تصلح لإلقاء الخطب وتدبيج البيانات وتأليف «بروباغندا» تستعمل لغة مستفحلة ومنتفخة، ويصح فيها قول الرسول بولس: «كطبل يطنّ وصنج يرنّ». فقط لا غير.

راهناً، لكل هيئة أولويتها، لكل فريق، دولة، نظام، حزب، محور، أولويات خاصة به. ولا يبدو أن هناك قرابة بين أولوية لدى فريق وأولوية لدى فريق مضاد. يبدو أن المرحلة الراهنة، هي مرحلة صدام الأولويات المتعادية. أو هو صدام العنف بالعنف، مع ما يلحق ذلك من تدمير للأهداف. عندها، تسقط القضايا، وتستمر الحروب. إننا في الطريق إلى هذا العبث.

لكل أولويّة أسباب وغايات. الفلاسفة الاجتماعيون، وجان جاك روسو تحديداً، يضعون الحرية في مقام المرمى الأول والأخير للحراك التاريخي. كل أولوية، غايتها المزيد من الحرية، أو التحرّر من الظلم والاستبداد والقوى المتحكّمة. وللأولوية، آليات لخدمتها: تفانٍ في العطاء، مزيد من التضحية، الكثير من الجهد، صفاء الذهن ورجاحة العقل، الوعي الدائم بالمتغيرات، التكيّف مع المستجدات، وحدة المسار والتصويب الدائم للمسيرة، عدم التغاضي عن الأخطاء… كل ذلك الجهد وكل تلك التضحيات، هي في خدمة الحرية.

هل كان لدينا مثل ذلك؟ هل لدينا الآن مثل هذا؟

راهناً، الالتباس يحيط باليقينيات. الشكل يتلبّس القضايا. الفوضى تجمع الأضداد. الخوف يلمّ الأعداء إلى الأعداء، ويضعهم في خندق واحد. مثل على ذلك: محاربة الإرهاب، تضم أميركا وأعداءها وحلفاءها وما هبّ ودبّ من حركات. مثل آخر: أسلمة السلطة والمجتمع والسياسة. تضم فرقاً تكفيرية من سلالة «قاعدية»، «وهابية» واحدة، وتتقاتل في ما بينها حتى الإلغاء. تحديد الأولوية، واضح في مخاض ملتبس. خرائط الطرق تدوسها جحافل برابرة، وأنقياء القلوب والسريرة والإيمان. القاتل والمقتول معاً، ضد قاتل ومقتول. وهذا أمر عرفه التاريخ. وهو من سخرية المسيرة البشرية.

لا يكفي أبداً، في الحقبة الجديدة، التي لم تتبين معالمها بعد، ولم تظهر حدود خنادقها كذلك، أن نقول: هناك أولويتان في المستوى ذاته. مواجهة التكفير والعمل من أجل التحرير. ولا يكفي الاكتفاء بهاتين الأولويتين فقط، لأن الواقع، ما يزال يفرز لدى المشاركين بصياغة وقائعه، أولويات متعددة ومتصارعة ومدمّرة.

من السهولة بمكان أن تضع إسرائيل في المرتبة الأولى في الأعداء، وأن تلتفت إلى الوقائع، فلا تجد طلقة ضد الاحتلال. بل هو الاحتلال الذي يقود حروبه، والآخرون يدافعون ويدفعون الثمن. فلا الاحتلال زال عن فلسطين، ولا اقترب من بوابة الانتصار.

ومن السهولة أيضاً، أن نقول إن الأولوية الموازية، أو الأولوية ذات المرتبة الممتازة هي الحركات الجهادية التكفيرية الظلامية. والسؤال، ماذا تفعل في المواجهة؟ ومن ثم، كيف تربط أو تفصل بين الأولويتين؟ علماً أن التكفيريين، هم أعداؤك وأعداء إسرائيل حتماً. على أمل ألا يستفز ذلك المعتقدين بأن إسرائيل شريك الإرهابيين، خاصة أنه بالمقارنة، يكاد يكون ظلم إسرائيل، المطلق، أخفّ وطأة من ظلم ذوي الآيات المسنونة دينياً وعنفياً. وآمل ألا يثير هذا حفيظة أحد، عندما أضع التكفيريين، كأعداء حقيقيين، لأنظمة ملكية وأميرية خليجية وأنظمة إسلامية اسماً وانتهازاً. كما آمل ألا أثير غضب من يظن أن «القاعدة» و «داعش» و «النصرة»، هي صناعة أميركية. فهذه، ثبت بعدد أعمالها العسكرية، أنها تضع أميركا والغرب في صدارة أعدائها وتمارس ضدهما أبشع العمليات الإرهابية. ثم، أن العالم كله، أولوية عند التكفيريين وحربهم على الجميع، هي حرب عالمية. انطلاقاً من تأسيس الخلافة الإسلامية في العراق والشام، وانتظام ولايات تحت عباءاتها، منتشرة في بلدان، ناطقة بالعربية، ولا تمتّ إلى العرب والعروبة بصلة.

]]]

قليل من التاريخ، للعبرة والاستفادة.

الرجل المريض كان على وشك النهاية. شعر الشريف حسين بدنوّ أجل السلطنة العثمانية. أحست بريطانيا أنها بحاجة إلى حلفاء في المنطقة، في حربها على الباب العالي. خاض الشريف مفاوضات بالمراسلة لتحقيق أولوية واضحة: التحرر من السلطنة العثمانية، الاستقلال، بهدف إقامة دول عربية حرة.

هذه الأولوية التي خدمها الشريف حسين، بالتعاون مع بريطانيا من جهة، ومع القوميين والأحرار في سوريا، لم تتحقق، لانقضاض الحليف البريطاني عليها عبر اتفاقه السريّ مع فرنسا. سقطت هذه الأولوية، «لأنك لست سيدها ولست خادمها الأوحد. شاركك فيها الآخرون، وأخذوا حصتهم».

هذه أول أولوية سقطت. نشأت بعدها، وبعد استتباب الانتداب أولوية ثانية عنوانها الحرية أيضاً: التحرر من الانتداب وإقامة دولة الوحدة. على أن الشعار الذي تبنّته القوى المناضلة، وضع الوحدة أولاً، بتأثير الثقافة القومية، والحرية ثانياً، تحت شعار الاستقلال. وفي ظل شعار الوحدة والاستقلال، ناضلت سوريا وناضل معها القوميون من العراق وفلسطين ولبنان. لكن الانتداب، أسقط شعار الوحدة، ورضخ له القوميون، بعد معاناة وسجون وعنف وبطش، وأبقى شعار الحرية، تحت باب الاستقلال. ومن المفيد أن نتذكر، أن شعار الاستقلال، لم يلغِ شعار الوحدة. على أساس أننا نستقلّ أولاً، ثم نتّحد. تجمّعنا نسبياً في تحقيق استقلالات مشوهة، وخسرنا إلى الأبد، الوحدة. العام 1936 هو عام تراجع الوحدة، وتقدم الكيانية وأنظمتها المختلفة. ولقد سُمّيت قطرية في ما بعد.

كل أولوية، لا تخذلها ولا تنتصر فيها، تخسر فيها الحرية. كل أولوية، لا تكون فيها أنت أولاً كقوة حاسمة، تخسرها. وتكون خسارتك عظيمة.

ومن المفيد أن نتذكّر الأولويات الخاصة بفلسطين. أولويات الأنظمة كاذبة. «النكبة» ليست من صنع الصهاينة، بل من تهاون الأنظمة واصطدام الأولوية الفلسطينية، بأولويات السلطة والنظام والقطر وأصحاب المصالح. «النكسة» حصلت لأن مصر كانت منصرفة إلى أولويات أخرى، دفعتها إلى التدخل في اليمن. فشلت مشاريع الوحدة، بسببنا نحن، وفشلت في فلسطين، لأن فلسطين لم تكن أولوية.

]]]

نحتاج إلى صفاء ذهني وحياد في التبصّر، لنقيم الحدّ بين الثانوي المؤجّل وبين الأولويّ المستعجِل. الغبش محيط بالمكان، وبالعقول كذلك، باستثناء من يستطيب أن يُملي قراءته على وقائع لا تشبه لغته ولا تتكيّف مع نظرته. الرؤية ملتبسة إذا انطلقت من موقع طائفي أو تحزبي أو مذهبي أو سلطوي أو أيديولوجي. النظارات هذه، تعمي الحقيقة وتنتقي الخطأ وتضعه في مقام المقدس.

ظاهرة المقاومة الإسلامية في لبنان، جديرة كنموذج التعاطي مع أولوية والإخلاص لها، لغة وفعلاً، تماساً وإنجازاً. فهي صاحبة ريادة في القراءة المتصالحة مع الواقع، لا المتعالية عليه، وهي صاحبة إنجازات في تحقيق أولوية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، حتى دحره. وهي صاحبة الاستعداد الدائم لما بعد إزالة الاحتلال عن الجنوب، ولمواجهة الخطر التكفيري.

الأولوية لدى «حزب الله»، كانت الحرية، باسم التحرير، ولو ألبس هذا الهدف رداءه الديني وعمامته المذهبية ومرجعيته الفقهية. هذه تراجعت إلى مقام الدعم، فيما ظلت خدمة المقاومة بهدف التحرير، هي في المقام الأول.

يصح القول: هذه مقاومة من أجل الحرية، أنشئ لها حزب لخدمتها. وليس كما كان سابق الأحوال، مع أحزاب عقائدية. نشأت لغايات كثيرة، وأرست أحياناً، مقاومة ضد الاحتلال، ثم انكفأت، فوجدت نفسها عاطلة عن النضال وعن العقيدة وعن…

مع «حزب الله»، المقاومة هي قوامه. من دونه، يصير الحزب داعية إسلامية شيعية تهدف إلى إقامة دولة دينية (إن استطاعت) تطبّق الشرع. ويبدو، من خلال مسيرة المقاومة ومسار الانتصارات، أنها خلعت الرداء الديني عن لغتها وسلوكها، غير أنها لم تخلع عنها سلاحها… إن المواءمة بين الأولوية الأولى والتوحّد في خدمتها، كانا من أجل الإنجاز التاريخي العظيم.

الأولوية كانت للتحرير. المقاومة وجدت واستمرت من أجله، وفازت به، وهي تستعدّ إلى ما بعد بعد..

هذا ما لم تحققه المقاومة الفلسطينية البطلة، ليس لقلة البطولة وندرة التضحيات، بل لأن طبيعة المواجهة مع إسرائيل، في دولة الاستيطان، تتطلّب أكثر من ذلك. تحرير جنوب لبنان، أسهل بكثير من تحرير شبر من أرض فلسطين، التي تعتبرها إسرائيل أرضها. يرمياهو يوفل، الفيلسوف اليهودي، يشير إلى ذلك بما يلي: «في لبنان، أقـــدامنا رخوة. في إسرائيل، ظـــهرنا إلى الحائط، لا مكان لنا خلفه. أقدامنا هنا قويّة وتصمد. لا تجرّبونا».

]]]

تكمن المشكلة في الأولوية الثانية: مواجهة الحركات التكفيرية. في هذه المواجهة تقدّم المذهبي على السياسي والوطني والقومي، ولئن ظلت المقاومة عنواناً يدافع عن سلاحها وقضية التحرير. تبدو معارك المقاومة في سوريا أنها، إلى جانب كونها دفاعاً عن النفس وعن أولوية التحرير وأولوية فلسطين، معارك قوى من مذهب، ضد قوى متعددة، معتدلة وتكفيرية وجهنمية، من مذهب آخر. وهي كذلك بالفعل. تختلط تلك المعارك، مع هدف آخر للمقاومة، هو دعم النظام السوري، وهو الموسوم بالمذهبية القريبة من مذهب «حزب الله».

الالتباس هنا ينعكس تمزقاً على مستوى الإقليم. انتفخت وتضخمت أولوية محاربة التكفيريين، وتضاءلت أولوية التحرير. العدوان الأخير على غزة، كان امتحاناً عسيراً لـ «حماس» ولـ «حزب الله». «حماس» قدمت أولوية «الأخوان» على العلاقة مع حلف الممانعة، فيما «حزب الله»، فضّل البقاء في حلف الممانعة، وعلى جفاء مع «حماس» المقاومة.

ماذا بعد؟ إن الاعتراف بالجهل فضيلة. إننا لا نعرف غير ما نراه. وما نراه يُسفر عن معركة وجود حقيقية، «إما أن تكون أو لا تكون». تلك هي الأولوية البديهية عندما تكون المعركة بعنوان: حرب البقاء أو الفناء.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى