الجسد العليل حكاية أوطاننا الممزقة | علوية صبح: «أن تعشق الحياة» … رواية الغضب!

 

«عندما أفكر بيوسف، يتأكد لي أنّ موت الحب في علاقة بين اثنين ليس هو الموت الأنجع، وإنما هو الصعقة القاتلة التي تصيب الأوطان. من قال إنّ حكايا البشر وأجسادهم ليست كحكايا مدنهم؟ أو أن الأجساد لا تشبه مدنها؟». بعد عشر سنوات من «اسمه الغرام»، تعود علوية صبح المشاكسة برواية عنوانها «أن تعشق الحياة» (دار الآداب): عشق ينطلق من الخيبة والمرض والمدن المهدمة لينزل كالصفعة على وجه كل ما هو قبيح وظلامي، وليجعل من الفن والرقص والجمال ديناً يدان به. هي رواية للغضب، «حكاية الغضب الذي تملّكني من انهيار جسدي وانهيار المدن العربية. كل ما يمرِض هذا الجسد من انهيارات على المستوى الإنساني وتجارب الأحداث، دفع بالرواية للخروج مما هو شخصي إلى ما هو عام»، وعود على بدء لصاحبة «مريم الحكايا» في مواكبة المرأة العربية أدبياً وروائياً في معركة استرداد حقوق إنسانيتها وأنوثتها كاملة من دون منّة ولا نقصان. من حالتها الصحية الحساسة، استلهمت صبح عالماً روائياً متعدّد الهواجس والشخصيات لتتقاطع «أن تعشق الحياة» مع الروايات التي تحتضن السرديات الكبرى وتغوص في أعماق البشر في الجنون والحب والخيبة والموت، وبخاصة في ما عشناه في العالم العربي من دمار وعدوان على مدننا وأجسادنا. حول الرواية الأخيرة والحياة التي تقاتل «بسمة» البطلة في سبيلها ممتلئة بالأمل والحب، كان هذا الحديث في «كلمات».

 

بعد مرور عشر سنوات تقريباً على روايتك الأخيرة «اسمه الغرام»، خرجَت الى النور روايتك الجديدة «أن تعشق الحياة». كيف ولدَت؟

– ولدَت «أن تعشق الحياة» من رحم الألم والمرض الذي أصابني. وقع ذلك مصادفةً قبل بداية ما سمّي «الربيع العربي» بقليل. كنت أشتغل على رواية أخرى وقطعت مرحلة متقدمة منها، لكن المرض العصبي الذي عذّبني كثيراً (وقد وصفته وصفاً دقيقاً في ما أصاب البطلة) جعلني لا أقدر أن أكتب شيئاً بمعزل عن جسدي. توقفت عن كتابة الرواية الأولى وبدأت أفكر بالشروع في عمل روائي آخر. كنت في بداية مرضي أقاوم وأذهب كل يوم إلى المقهى لأكتب، وكنت يومياً أكاد أقع من التشنجات والارتجاجات، وتولّد لديّ إحساس بأنّي فقدت السيطرة على جسمي وعلى ذاكرتي بسبب المهدئات الكثيرة. حتى إنّني وجدت دفاتر عديدة مكتوبة في السنوات الأولى من مرضي لا كلمة لها علاقة بالأخرى بسبب عدم القدرة على التركيز. في فترة العجز عن الكتابة، صارت الرواية تتكوّن وتجري أحداثها في داخلي: كانت تفشل على الورق وتنجح في مخيّلتي التي فارت بشكل غزير، ولم أكتبها آنذاك فصلاً فصلاً وإنما كلمة كلمة في رأسي. تخيلت لو أن البطلة راقصة وترتكز كل حياتها على هذا الجسد، ماذا كان ليحدث معها؟ كان لديّ شعور أنني من خلال ما تعيشه الراوية، سأستعيد العلاقة بجسدي وذاكرتي. هذا هو التماثل بيني وبين «بسمة» في هذا الزمن، أو في زمن الحرب حين مرضت أيضاً وكنت في العقد الثاني من عمري وأيضاً استرجعت مرضي في طفولتي. كل ما له علاقة بالحالة الصحية للراوية هو تجربتي، أما الشخصيات الأخرى وعوالمها فكلّها متخيّلة.

شكّلت «مريم الحكايا» و«دنيا» و«اسمه الغرام» ما يشبه الثلاثية في الحب والجسد والمرأة. أين الرواية الجديدة من أخواتها؟

– لقد رأى النقّاد أنّ أعمالي الأولى هي ثلاثية، لكن كل منها كانت تختلف عن الأخرى من حيث التقنية أو الهاجس الروائي في هذه الرواية أو تلك. منذ روايتي الأولى، حاولت أن أعبّر عمّا هو منفيّ في الأدب وكسرت التابو الديني. حاولت أن أدخل في عوالم النساء المقصية في العالم العربي من الأدب الروائي الحديث. اعتبر القرّاء أنّي كسرت الصوت الذكوري في الرواية العربية: لست مهجوسة فقط بالحب والجسد وإنما طرحتُ موضوعات كثيرة منها العنف تجاه النساء بكافة أشكاله، وما يكبّل المرأة والإنسان العادي من مفاهيم اجتماعية وقوانين ومعتقدات، ودخلت بخاصة على ذاكرة النساء المنسية. ما أقوم به في أعمالي الأولى أو في «أن تعشق الحياة» هو أن أحفر في الشخصية ولا أمرّ على الأشياء مروراً ظاهرياً، إذ لا أحب أن أكتب بشكل تقريري كما أقرأ في الكثير من الروايات، بل يهمني الغوص عميقاً والتعبير عما هو مظلم في حيوات الأبطال. ثم إنني دائماً ما أحاول أن أعبّر عن مصائر شخصيات انقادت إليها بفعل الحرب أو الهزائم والخيبات: هذا الأمر شكّل هاجساً أساسياً لي.

أي حكاية تضعينها بين يدي القارئ في «أن تعشق الحياة»؟

ــــ ألجأ إلى الحكي في رواياتي وأنتصر له لأنني أراه وسيلة راقية للتعبير. هي حكاية الغضب الذي تملّكني من انهيار جسدي وانهيار المدن العربية. كل ما يمرِض هذا الجسد من انهيارات على المستوى الإنساني وتجارب الأحداث دفع بالرواية للخروج مما هو شخصي إلى ما هو عام. ولذلك تولدت في الرواية شخصيات كثيرة إلى جانب «بسمة»، وكل شخصية تعبّر عما آلت إليه مجتمعاتنا العربية. تحدثت عن «بسمة» في صراعها مع المرض لاستعادة جسدها وذاكرتها، وتجربة «أنيسة» من خلال إحساسها بعدم كرَم زوجها المادي والعاطفي لأن البخيل ـ كما تقول ـ لا يمكن أن يكون بارعاً على مستوى التعبير الجسدي والنفسي. أيضاً، هناك جسد «أمينة» المصابة بجوع عاطفي، و«نزار» الذي دمرته الأحزاب وبات شبه مجنون، و«يوسف» حبيبها الذي عاشت معه على طول الرواية تجربة حبّ جميلة لكنه انعطف إلى الأصولية: دائماً ما تكون في العمل شخصية رئيسية، لكني لا أغبن الشخصيات الأخرى في التعبير عن عوالمها والدخول في تجاربها. الحكاية باختصار هي حكاية الحب والشجاعة والجنون ولكن أيضاً الفقدان والمرض والخيبة والغضب من كل ما يسبّب انهيار الإنسان اللبناني والعربي: وكأن كل شخصية في الرواية مصابة بعطب ما. تقول «بسمة»: «كلنا مرضى سواء كنّا مستبِدِّين أو مستبَدّين».

الجرأة في هذه الرواية مختلفة، كيف تصفينها؟

– إن عشق الحياة هو الذي جعل البطلة تقاوم المرض وتنتصر عليه، وهذا نوع من الجرأة الوجودية، فلا يمكن لعاشق الحياة إلا أن تمتلئ به وأن ينتصر على كل المصاعب التي يكابدها، ونرى «بسمة» مع كل وهن في جسدها أو خسارة حبّ تقاوم انطلاقاً من هذا العشق، إذ بالنسبة إليّ، الحياة ربما هي رقصة.

ثلاثة رجال تعشقهم «بسمة» في «أن تعشق الحياة»، هم «أحمد» و«يوسف» والحبيب الذي تروي له البطلة حكايتها على طول الرواية. هلا رسمت لنا نوعاً من البورتريه للعشاق الثلاثة؟

ـــ «أحمد» هو الحب الأول في حياة «بسمة»: شخصية أبعد ما تكون عن الذكورية بالمعنى التقليدي، بل ممتلئة بالحنان… تقول البطلة إنّه كان إنساناً ولرقّته ما لبث أن تحوّل إلى ملاك حارس يرافقها على طول الرواية. كان أحمد يكتب رواية تصف علاقتهما معاً، وفي لحظة الموت طلب منها أن تعيش حياتها كما أراد أن يكمل هذه الرواية. كان دائماً يحثّها على الحياة وعلى مقاومة المرض. هو أشبه بكائن طيفيّ تتذكره «بسمة» دوماً عبر الكلمات والوصايا التي أعطاها إياها. الرسام «يوسف»، الحبيب الثاني كأنّه ولد من الحبيب الأول. حين حضرت للمرة الأولى معرض لوحاته، شعرَت أن روح «أحمد» تسكن في الشجرة، كأنّه أهداها إلى حبّ جديد. عاشت «بسمة» أجمل تجربة مع «يوسف»، الإنسان الجميل والرسّام المبدع والعبثي والمتعلق بالرسم إلى أبعد الحدود. كان اللون حياة «يوسف» ومعتقده ونقرأ له مقاطع عميقة عن فلسفته للوجود والحب، إلّا أنه مرّ بتجارب مؤلمة أبرزها مقتل أبيه وإخوته في حادثة ثأر بين عائلتين. ولم يبقَ له سوى أمه التي استشهدت خلال حرب تموز وأخيه الذي استشهد أيضاً في سوريا. على طول الرواية، أتحدث عن التحولات التي حدثت لهذه الشخصية الدرامية، إن على مستوى لوحاته أو حياته: لم يكن سهلاً عليّ الموازاة بين هذين العنصرين، وكذلك جسّدتُ تحولات الشخصيات الأخرى. الحبيب الثالث هو من تكتب له «بسمة» وتقصدتُ منذ البداية أن يبقى غامضاً. تقول البطلة إن الإنسان بحاجة لشخص محايد ليروي له الحكاية، ونحن ندرك في آخر الرواية أن التواصل معه كان افتراضياً فقط. هو يمارس مهنة المسرح العلاجي، وهذا ربما ما دفعها إلى أن تروي له. حين نُدخل إنساناً في ماضينا، نشعر أنه قد صار جزءاً منّا. لذلك أنهيت الرواية باحتمال أن يلتقيا، لأنني لو فصّلتُ في علاقتهما كنت لأنتقل إلى رواية أخرى. هو رمز لأملٍ ما في الحب، وحين ظهر في حياتها، لا نعلم إن كانت قد شفيت تماماً. لقد مشت في طريق جديدة وهذا مؤشر إلى أنها تجاوزت الآلام والغرام الذي كان بينها وبين «يوسف». وأذكر أنها في الجملة الأخيرة تقول: «هل في الحب شفاء؟ في الحب احتمالات كثيرة، قد يأتي إليّ يوماً، أو أنا أذهب إليه حتماً… في الحب احتمالات كثيرة».

لا تتوه بسمة قيد أنملة عن بوصلة الجمال والحب والأمل رغم المرض والمآسي والحروب. هل تعمدتِ أن تعطينا ضوءاً في قلب هذا الظلام الذي يحيط بنا من كل جانب؟

ــــ أنا دائماً أترك ضوءاً في رواياتي وتعجبني عبارة سعد الله ونّوس «نحن محكومون بالأمل». بالحب والفن والحرية يستطيع الإنسان أن يصل إلى ما يريد تحقيقه. ألا تذكُر جملة «أن الحرية لا تملّ من انتظار من يسير إليها؟» بسمة اختارت الحرية والفن حين خيّرها يوسف بينه وبين هذه الأشياء. هل يقدم الفن خلاصاً ما؟ ربما نشعر اليوم أن الخلاص فردي (إن كان هناك من خلاص) لأننا نعيش خيبات كثيرة. الفن لا يمكن أن ينحاز إلا إلى بقعة ضوء لكي يستطيع أن ينجو بنفسه من خلال الحكي أو الفعل.. كل هذا الغضب تشهره بسمة بحيث لم أدَع شيئاً مما يسبّب مرض الشخصيات أو عطبها إلا وتحدثت عنه: الغضب حياة والكراهية موت. أنا غاضبة في الرواية ولا بد لهذا الغضب أن يكون تعبيراً عن الضوء. أنيسة أيضاً روائية وربما تولّد لديّ تخييل أنيسة لكي أعكس ضوءاً ما، بتحولها من التحقيقات التي تجريها في الصحيفة بعد شللها جراء صدمة أصابتها بموت حبيبها إلى المقاومة بالكتابة. هي مثلي كلما كتبت كلمة، تأمر رجليها بالوقوف.

«الدمعة رحم أمي الذي أنجبتني»، «كأنني أسير على عكازين من هواء»، «الجِلد سجل الحياة»… هناك الكثير من الجمل الشعرية في الرواية. هل نلتقي بعلوية صبح الشاعرة في هذه الرواية، خاصة أنّ بداياتك في الكتابة كانت شعرية؟ وهل ينجح الزواج بين الشعر والرواية دائماً؟

ــــ من عادتي دائماً أن أعبّر عن قساوة حيوات النساء وأدخل في دهاليز مظلمة أو حتى في حيوات الأبطال العاديين. أجد نفسي لاشعورياً مدفوعة إلى السخرية كي تتلوّن اللغة وتتعدّد الأصوات، ما يخلق طبقات في الرواية كي لا تأخذ طابعاً أحادي النبرة وتسقط في الملل والرتابة. في هذه الرواية، تكابد بسمة آلاماً مزمنة، وفي تجربتي التي تتقابل معها من دون أن يتعلّق الأمر بسيرة ذاتية، ربما الألم الذي عشته هو ما جعلني أكثر شفافية وشاعرية ورقّة. كنت أحياناً أذهب لا شعورياً إلى تعابير يمكن اعتبارها «حالة شعرية» أكثر منها إدخالاً للشعر في الرواية. لقد اشتغلت فيها كثيراً على اللغة وأحياناً كنت أتفاجأ مما أكتبه، فالشعرية هنا في خدمة الرواية لا العكس. هناك أيضاً تأمل في الحب والحياة والزمن. لا يمكن أن أعبّر بلغة واحدة عن عوالم كل الشخصيات أو أن تكون اللغة موحدة في الرواية ككل. لكل شخصية لغتها، ولا بد من توازن ما بين الإقناع والتخييل في رواية ناجحة. وجود مساحات واسعة من الإقناع سمح بالمقابل للتخييل أن يأخذ مداه. يوسف مثلاً شاعر ورسام، وهي ترقص، والشعر يكتسب أهمية فائقة في أدائها. هذه الشخصيات هي كلها في عالم الثقافة والشعر بسطوته ليس غريباً عنها.

هل الفنون والكتابة تُداوينا؟ لماذا لم يداوِ الفنّ يوسف، الذي انحاز للتطرف الديني؟

ـــ كل أنواع الفنون ليست فقط علاجاً نفسياً، وإنما الهواء الذي نتنشقه ويُشعر الإنسان بإنسانيته. لقد شفيت أنيسة بالكتابة، وكذلك تدهشنا إرادة بسمة في التدريب على الرقص. أما يوسف ــ ورغم كونه رساماً ــ فقد أوصلته الخيبات إلى الانزياح لعالَم ظلامي وبات يخاف الموت، هو الذي كان يقول في السابق «الحياة تحوط بالموت يا حبيبتي». أعرف الكثير من المثقفين الذين تحولوا من العلمانية إلى الأصولية، وهذه اللوثة تُبعد الإنسان عن كل ما هو فن وإبداع. لقد غلبه اليأس والانكسار، مع أن بسمة سألته مرة «هل يمكن أن يصبح الفنان أصولياً إذا تديّن؟». فيجيبها بأن الفنان الذي ينحاز إلى الدين، قد يغيّر لوحاته ويرسم الحروفية أو العالم الروحاني. لقد فقد يوسف علاقته بيديه وذلك الإحساس بأنه يرى العالم من أصابعه.

هل يوسف فنان بلا هوية؟ وأي رمزية للمشهد الأخير حين تقع منه لوحة بلا توقيع؟

ـــ هو تجسيد للهويات المريضة. يوسف لم ينحَز للإيمان وإنما تغير من إنسان عبثي وحرّ إلى شخص مغاير. هويّته هنا معطوبة، إذ ليس من إنسان بلا هوية وبخاصة الفنان الذي هويته هي الفن. وقد يجد كل قارئ في المشهد الأخير رمزية ما حين فتح الحقيبة وهو يهلوس لأنه لم يستطِع أن ينسى بسمة وأن يتابع الحياة بدون فن. وجدت نفسي لاشعورياً أكتب في مشهد جِد تخييلي وهو يفتح يديه وراح يعلو ويعلو ومن ثم انطفأ الضوء ولكن سقطت من يديه لوحة كانت بسمة قد أدّت فيها الرقصة الأخيرة على إيقاع الموسيقى. اللوحة التي وقعت، كانت أجمل ما رسم لكنها كانت بلا توقيع. أترك لكلّ قارئ أن يقرأ المشهد كما يحلو لخياله.

في الرواية لوحات فانتازية عجيبة: الجنية التي تُرضع الأطفال وتطعمهم، استحضارك لجداتك السبع ووصاياهنّ، كيف تخدم الفانتازيا الكتابة الروائية؟ وهل توظيف الخيال ضروري في كل رواية ناجحة؟

ـــ لم أتعمّد الفانتازيا. الغرائبية موجودة في الحياة وأنا لا أكتب بمعزل عن الحياة. في بلادنا، فانتازيا غريبة وبخاصة عند الشخصيات الشعبية، وأعترف أن أمي قد قالت لي يوماً أنها رأت الجنية «الصالحة» ترضعني وأنها شفتني أثناء مرضي في الطفولة. أنا ابنة بيئة شعبية مليئة وغنية بالمعتقدات والعناصر الفانتازية، ولكن ذلك ليس مفتعلاً على الإطلاق في كتابتي. قد أكون من بين قلة من الروائيين ممن يهتمون بالمعتقدات الشعبية والإيمان بأشياء غرائبية تجذب للكتابة، وبخاصة حين تُروى بشكل تلقائي على لسان شخصيات شعبية. أما بالنسبة لمشهد الجدّات، فإن القدرة على التخييل هي التي فرضته: تولّد هذا المشهد في لحظة من الألم لم أكد أحتملها، إلى درجة أنني كنت أشعر أن جسدي يزول وأنني أتحول إلى روح خالصة. سألت نفسي ماذا يمكن لجداتي أن يقلن لي في لحظة الهذيان من المهدئات والألم؟ نهضت وأنا أرتجف وكتبت الفصل بشعور حقيقي كما لو أنهنّ حولي وتخيلت أن بسمة ستذهب إلى القابلة التي تعرف أسرار النساء ولا تعرفها. هي فانتازيا، ولكن بشعور حسيّ حقيقيّ عشته. كانت الجدات في المشهد مكمومات، وقلت ليتني أعرف قصصهن فقد أعطينني دفعاً لمقاومة المرض ولأن أحكي حين يقلن «حكايانا تحت التراب والتراب حكايا».

في «أن تعشق الحياة»، نفحات صوفية عديدة، من ابن عربي الذي يؤنس البطلة في المشفى في موسكو، إلى استحضار الرقص الصوفي والعشق الذي يتّحد فيه العاشق والمعشوق. هل أنت صوفية الهوى؟ وهل الصوفية بديلة من دين «المشايخ» الذي هاجمته بقوة في الرواية؟

ـــــ في لحظات أشعر أنني صوفية لأنني أؤمن بالحب بمعناه الشامل والواسع والصفاء والإيمان لا التدين. لست ضد الدين، فأنا مؤمنة ولكني لست متديّنة لا سياسياً ولا اجتماعياً، لكني لو قارنت بين دين المشايخ الذين لا يفقهون من الدين شيئاً ويتناسلون ويحتلون الإعلام والفضائيات والعقل والروح، سأنحاز بالطبع إليّ الصوفية. هذه اللحظات الصوفية أعيشها منذ أن مرضْت. أشعر أن هذا العالم الصافي الجميل والخلاق هو البديل لكلّ هذا الواقع البشع والتمزق في المذهبيات والعنصريات وكل ما هو لا-إنساني.

 تحضر الأحداث السياسية في لبنان والمنطقة بقوة في الرواية، وتحاول بسمة في أكثر من موضع أن تصمّ آذانها عن سماع أخبار الذبح والسبي والقباحة. هل يمكننا الفصل بين الحياة والسياسة؟

ــــ عندما تكتب الحياة أو تنغمس فيها بالكتابة، لا بدّ من أنّه ستكون لديك الحرية في التعبير عن كل الأشياء التي فيها. باتت السياسة جزءاً مهماً من حياة الإنسان اللبناني والعربي. لقد أشهرت غضبي من كل ما يحصل في واقع المنطقة، وتألمت وسخرت، لكنّني لم أسمح للإيديولوجيا أن تكون الصوت الصارخ في الرواية. السياسة حضرت من خلال حياة الشخصيات. وعلى المستوى السردي، كان لا بد أن أنطلق مما هو ذاتي إلى ما هو مجتمعي وسياسي، بتسليط الضوء على تجارب «عيسى» الفلسطيني الذي يتحدث بكل صدق عن يومياته مع زعيمه في أحد التنظيمات، و«نزار» وجنونه من الأحزاب التي سبّبت أمراضاً للأفراد والمجتمعات، وفي الحوار بين بسمة ويوسف حول المنعطف الأصولي الذي شعر وهو فيه بالبيت يمتلئ بالبق والعفونة.

«أقفال تغيرت أشكالها فقط وما زالت هي أيضاً داخل النساء» هل تحسنت وضعية المرأة في العالم العربي أم أنّ خلاص بسمة ورقصها في نهاية الرواية هو خلاص فردي بحت؟

ـــ الجملة هذه جاءت بشكل طبيعي وغير نافر في سياق الحديث عن القفل وعلاقته بالنساء. من المؤكد أن في كل ما أكتب هناك صرخة لحرية المرأة: ليست بالصرخة الإيديولوجية وإنما صرخة من صميم المعاناة والتجارب. بعد الفتاوى وظهور المنظمات الأصولية، أرى أن هناك تراجعاً كبيراً في ما يتعلق بالنساء يضيق عليهن الأفق ويسجنهنّ في أقفاص وأقفال. هناك جيل من النساء الجميلات المتحررات، ولكن بالتأكيد لا يمكن لوضعية المرأة أن تتحسّن ما لم تسنّ قوانين ضامنة لحريتها. حتى الآن، لم نستطع أن نشرع قانوناً ضد تعنيف المرأة في لبنان مثلاً؛ المشهد العام سيئ إجمالاً ويكفي أن ننظر لفتوى «نكاح الجهاد» وخلفياتها ومفاعيلها الكارثية. الخلاص لا يزال فردياً ومن مهمات العمل الإبداعي، وخاصة في كتابة المرأة، أن يضع الإصبع على ما يكبّل النساء ويجعلهن سجينات. عمل الروائي هو فني في الدرجة الأولى، وليس بحثاً اجتماعياً، وأنا أوظّف كلّ ما يحيط بعالم المرأة من أقانيم، ولكن هاجسي الأساسي يبقى فنياً لأن المعرفة الفنية لا تنفصل البتة عن المعرفة الإنسانية. عندما تقرأ المرأة ما تشعر أنه يعبّر عنها، أنا أكيدة أنها تتغير: أن نرى ذواتنا في العمل الفني لا بد سيحدث تغييراً في حياتنا، ويجعلنا أكثر حرية. الأدب منتَج ومنتِج، فكما الأدب أو الفن هو ابن الواقع، فكذلك الواقع هو ابن الفن والأدب.

هل من وصفة بسيطة برأيك لعلاقة ناجحة بين امرأة ورجل؟

ــ ليس هناك من وصفة مباشرة كما هو الحال في الطبخ مثلاً، لكني أقول أن أساس أيّ علاقة ناجحة هو أن يعترف أحدهما بالآخر بوصفهما فاعلَين وليس أن تكون المرأة مفعولاً بها وجسداً فقط لتفريغ الشهوات.

ماذا بعد «أن تعشق الحياة»؟

ــ عدت إلى كتابة الرواية التي كنت قد توقفت عنها، ولا أستطيع أن أقول شيئاً عنها الآن.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى