كتب

‘الديكاميرون’ حكايات منحت جيوغاني بوكاشيو التأشيرة للأدب العالمي

ولدت فكرة هذا الكتاب “مورفولوجيا سرود بوكاشيو..الديكاميرون أنموذجًا” للناقد الجزائري د.الرشيد بوشعير في ظل جائحة كورونا وما فرضته من عزلة، ويقول “في هذه العزلة التي فرضها كورونا وقع في يدي كتاب “الديكاميرون” مصادفة فقرأته التماسًا للتسلية الأدبية، والبحث عن مهرب من الإحباط والمشاعر السلبية التي كانت مصاحبة لهذا الوباء.وكم كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت أوجه الشبه بين “الديكاميرون” و”ألف ليلة وليلة”!، وهو ما يطرح سؤالًا جادًّا عن علاقة بوكاشيو بالتراث السردي العربي الإسلامي، وعن الملابسات التاريخية التي أفضت إلى هذا التواصل، وعما إذا كان هذا التشابه من باب وقع الحافر على الحافر.شغلت بهذا الموضوع بعد أن طويت آخر صفحة في “الديكاميرون”، ونويت أن أكتب مقالة عنه لنشرها في مجلة ثقافية، ولكن فكرة المقالة اتسعت فأصبحت، بحثًا، ثم اتسعت فباتت كتابًا في نهاية المطاف”.

“الديكاميرون”، أو “الأيام العشرة” للكاتب الإيطالي جيوڤاني بوكاشيو، مؤداه أن عشرة أصدقاء، فيهم ثلاثة رجال وسبع نساء، أرادوا أن يفروا من مدينة “فلورنسا” الملوثة الموبوءة بالطاعون إلى الريف، حيث الطبيعة الخلابة والهواء الطلق الذي يقيهم من تلك الجائحة، واتفقوا على سرد القصص المسلية التي تدرأ عنهم غبار الحزن والاكتئاب الذي زرعه الوباء في أنفسهم، على أن يروي كل منهم حكاية ممتعة كل يوم، وذلك على امتداد عشرة أيام حتى يبلغ عددها مئة حكاية.

يتبوأ كتاب “الديكاميرون”، وفقا لبوشعير مكانة رفيعة في الآداب العالمية، لكونه أسهم إسهامًا كبيرًا في تطوير السرديات وجعلها أكثر واقعية وأكثر تعبيرًا عن حياة الناس الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. كما يعد موسوعة للحياة البشرية في القرن الرابع عشر الذي شهد صعود الطبقة البرجوازية وما تبع ذلك من تغير في القيم والمواضعات الخلقية والروحية، وفضلًا عن كونه أسهم في الارتقاء باللهجة الفلورنسية إلى مستوى اللغة الأدبية.وفضلًا عن ذلك فقد مارس بوكاشيو في كتابه هذا تأثيرًا قويًّا في الآداب العالمية، ويكفي أن نشير إلى أن شاعرًا مسرحيًّا مثل “موليير”قد استقى نموذج المنافق “طرطوف” وهو عنوان مسرحية كوميدية، من حكايات “الديكاميرون”، على الأرجح.كما أن “بومارشيه ” في مسرحيته الساخرة “زواج فيغارو ” قد أفاد من الديكاميرون، كما يبدو، وخاصة في القصة الرابعة من اليوم الثامن، حيث يغرم رئيس كهنة الكنيسة في “فيسولي” بأرملة لا تريده، فتلجأ إلى الحيلة كي تتخلص منه، وتجعله يعاشر خادمتها، ويفضح أمام الجميع، وهي حبكة “زواج فيغارو” الذي يتعلق بوصيفة، تعمد زوجته إلى تبادل الأدوار بينها وبين تلك الوصيفة، فقد ارتدت الزوجة ثياب الوصيفة، وأعادت لباسها لتلك الوصيفة، فيطارحها الغرام، ثم يرى الكونت الوصيفة ترتدي لباس زوجته وهي مع “فيغارو” فيشك فيها، ثم يكشف “فيغارو” اللعبة أمام الجميع.

ويلفت بوشعير إلى أن الشاعر المسرحي راسين” هو الآخر قد نهل من “الديكاميرون” في مسرحيته “أندروماك”، وخاصة في القصة السابعة من اليوم الثامن، حيث يقع مثقف في حب أرملة كانت تحب رجلًا آخر.ففي “أندروماك” راسين يتعلق “أوريست” بـ “هرميون” التي تحب “بيروس” الذي يحب “أندروماك” التي تحب زوجها الراحل “هكطور”.هذا فضلًا عن أثر بوكاشيو في “تشوسر” الإنجليزي الذي استوحى “الديكاميرون” في كتابه “حكايات كانتري بري”، كما أشرنا في التمهيد.ولا ينكر فضل “بوكاشيو” على الأدب الأوروبي خاصة؛ فقد كان “لأدبه أهمية كبرى في إرساء قواعد الواقعية الأوروبية، وقد اعتمد مسرحيو عصر النهضة على قصصه، ووجدوا فيها تجسيم انتصار الشخصية الإنسانية على العوائق التي تحول دون تحررها، فكان من المؤلفين الذين اعتمدوا عليه شكسبير، ولوبي دي ڤيغا، وليسنغ، وجوتة”.

ويوضح بوشعير أن جيوڤاني بوكاشيو (1313-1375) يعد علمًا من أعلام الرعيل الأول الذين أسهموا إسهامًا عميقًا في انتشال أوروبا من عصور الجمود الفكري والأدبي والعلمي، أو ما يسمى العصور الوسطى، أو عصور الانحطاط، والولوج بها إلى عصر النهضة، من أمثال نيكولو مكياڤيللي، وميخائيل أنجلو، وليوناردو داڤنشي، وفرانسيس بيكون، ورينيه ديكارت، وفرانسوا رابليه، وميغيل دي سيرفانتس ومارتن لوثر، وجاليليو جاليلي. وهؤلاء، وغيرهم، أسهموا في نهضة أوروبا بدءًا من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر.في هذه المرحلة التاريخية أخذ دور الكنيسة في الانحسار، كما أن طبقة الإقطاع أخذت تتآكل كي تحل محلها الطبقة البرجوازية، وقد انعكست هذه التحولات على الفلسفة والأدب والعلم والفنون التشكيلية التي التحمت بالواقع شيئًا فشيئًا، فسلخته عن عباءة الميتافيزيقا الطوباوية المثالية، جانحة إلى الاقتراب من الإنسان والأرض والعلوم التطبيقية.وكانت شرارة النهضة الأوروبية قد انقدحت في إيطاليا على إثر سقوط القسطنطينية واستثمار نسغ الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس.وقد ولد “بوكاشيو” في سياق هذا المد النهضوي منحدرًا من الطبقة البرجوازية التي ازدهرت في “فلورنسا” خاصة، وذلك في باريس عام 1313 من زواج غير شرعي لأب كان من كبار تجار مدينة فلورنسا التي كانت تسود فيها “جماعة من الطبقة الوسطى أثرت فأزاحت الطبقة العليا عن عرشها”. وقد أراد له والده أن يكون تاجرًا مثله، ولكن الفتى بوكاشيو انصرف عن التجارة وانغمس في حياة اللهو والمجون ونظم الشعر وكتابة القصص، مقتديًا بالشاعر “ڤرجيل” الذي زار قبره قاطعًا على نفسه عهدًا بأن يهب حياته للأدب.

ويلفت بوشعير إلى تعلق بوكاشيو بابنة غير شرعية لملك ناپولي، ولكنها ما لبثت أن قضت في “الوباء الأسود” (الطاعون) الذي اجتاح إيطاليا آنذاك، وهو ما أوحى له بعمله الكبير الموسوم بـ”الديكاميرون” الذي يومئ في إحدى قصصه إلى حبيبته ماريا دي أكينو أو فيامتا، كما يسميها في إحدى تلك القصص “التي قيل عنها إنها أول قصة تحليلية عرفتها الآداب الأوروبية”. وقد عُين بوكاشيو محاضرًا في جامعة ناپولي فيدريكو الثاني، متخصصًا في شرح أعمال “دانتي” والتأمل الديني في “الكوميديا الإلهية” وسبق له، بعد أن ذاع صيته بوصفه شاعرًا وكاتبًا، أن عين في مناصب دبلوماسية، وقد أصيب والده بإفلاس، مما أثقل كاهل بوكاشيو بالديون، ولكنه استطاع أن يسدد تلك الديون من عائدات عمله في المناصب الدبلوماسية، وتوفي سنة 1375.ومن بواكير أعماله في الأدب قصيدة “فيلوستراتو ” ثمانية الأشطر، وهي القصيدة التي استوحاها “تشوسر” في قصته ترويلس وكريسيدا، كما استوحى في ما بعد “الديكاميرون” في كتابه “حكايات كانتربري”.ومن أعمال بوكاشيو أيضًا كتاب “سلالات الآلهة”، وهو مصنف جمع فيه الأساطير الإغريقية والرومانية وشرحها بأسلوبه في اللغة اللاتينية وهو ما ينم عن “معرفة وسعة اطلاع”. ومن سرديات بوكاشيو التي ذاع صيتها “نينفالي دي آميتو ” و”رؤية غرامية”، وقصة “مرثاة مادونا فيميتا “، وهي القصة التي أبدى فيها بوكاشيو براعة لافتة للنظر في التحليل النفسي للشخوص،كما كتب رواية “فيلوكولو ” التي كانت “ثقيلة الظل وكثيرة التشوش والاضطراب”، نظرًا إلى كثرة أحداثها وحشد شخوصها.

ويرى أن العمل الأدبي الذي منح بوكاشيو تأشيرة الدخول إلى الأدب العالمي هو كتابه السردي “الديكاميرون” الذي ترجم إلى اللغات الحية، ومنها العربية التي ترجم إليها مرتين، في ما نعلم؛ فقد ترجمه صالح علماني ونشره في دار المدى بدمشق سنة 2006، كما ترجمه الدكتور عبد الله عبدالعاطي النجار ونشره في طبعة جديدة في سلسلة “المئة كتاب” بالقاهرة سنة 2016.أما الترجمات السابقة على ترجمتي “صالح علماني” و”عبد الله عبد العاطي” فإنها ترجمات مبتسرة وليست كاملة، ومن هذه الترجمات المبتسرة ترجمة “كامل كيلاني” لبعض قصص “الديكاميرون” سنة 1929، وقد صدرت بالقاهرة عن “مكتبة الوفد” تحت عنوان “مختار القصص”، وفيها قصص من مصر وقصص عالمية، منها تسع قصص لبوكاشيو، وفي سنة 1933 عاد المترجم نفسه فأصدر ترجمة إضافية بعنوان “روائع من قصص الغرب”، وفيها تسع قصص لبوكاشيو كذلك.

ويؤكد بوشعير أن سرود “الديكاميرون” تظل مادة خامًا وليست مُشَكَّلة فنيًّا، وهي في ذلك لا تختلف عن المقامات في المرويات العربية؛ لأن حكايات “الديكاميرون”، على الرغم من توفر بعض عناصر القصة القصيرة فيها، تفتقر إلى كثير من مواصفات القصة الفنية، كالزمن المركز الذي لا يتجاوز لحظة أو يومًا أو أسبوعًا في القصة، والحدث الواحد، واللغة المكثفة التي لا تحتمل الاستطراد والإطناب، ووحدة الأثر، والبناء المحكم الذي يدفع بالأحداث والشخوص إلى التأزم ثم الانفراج، وما إلى ذلك مما تمتاز به القصة القصيرة، كما صاغها الرعيل الأول من الكتاب العالميين، من أمثال “غوغول”، و”تشيكوڤ”، و”غي دي موپاسان”، و “إدغار آلان پو”، فهذه المواصفات مفقودة في “الديكاميرون” قطعًا. إن قصص “الديكاميرون” لا تركز على موقف بعينه، كما أن أحداثها تتفرع دومًا وتنتهي غالبًا بنهاية سعيدة، على نحو ما رأينا في قصة “صلاح الدين وبورتيللو”، هذا فضلًا عن الترهل اللغوي ذي المستوى السردي الواحد، الذي يكاد يخلو من الحوار والوصف، فضلًا عن تدخل الرواة وتعليقاتهم، وعن النزوع التقريري المباشر الذي يتراءى في استخلاص العبر والمواعظ والقيم الخلقية.

ويتابع “كفانا بوكاشيو مشقة التخمين منذ البداية فقدم لنا خارطة جاهزة للمعاني المستخلصة من سائر قصصه، مُصادرًا حق المتلقي في التأويل، فكان يذكر القيم الخلقية التي تمخض عنها زخم التجارب الاجتماعية التي تعبر عن نفسها من خلال السرديات التي تمثل روح الأمة الإيطالية في القرن الرابع عشر، ولكنه يستدرك فيحاول إعادة زمام التأويل والتثمين إلى المتلقي عندما يؤكد حرية هذا المتلقي في اختيار ما يروق له في هذه القصص دون فرض ذوقه ومنطقه وقيمه الفردية النسبية على الآخرين. وعلى الرغم من تأكيد دور المتلقي في الاختيار والتأويل والتثمين، فإن بكاشيو يحرص على تصنيف مضامين قصصه في مستهل كل يوم من أيامه العشر؛ ففي اليوم الثاني من هذه الأيام تُنصَّب الراوية “فيلومينا” ملكة شرفية لسائر الرواة الآخرين الذين يروون قصصًا تتمحور حول “أولئك الذين تلاحقهم نكبات متعددة، ويتوصلون، بعد فقدان كل أمل، إلى نهاية سعيدة”.ونشير هنا إلى القيمة أو الرؤية المبتغاة من خلال قصص اليوم الثاني من “الديكاميرون”، وهي قيمة الصبر.وفي اليوم الثالث تدور كل القصص التي تروى بقيادة “نيفيليه” “حول من استطاع الحصول بحيلة ما، على شيء راغب فيه، أو استعاد شيئًا مفقودًا”.ومن البدهي أن المضمون العام بقصص هذا اليوم الثالث يتعلق بقيمة الذكاء أو العقل الذي يميز الإنسان عن الحيوان.وفي اليوم السابع يتولى “ديونيو” الحكم وتروى قصص عن “خدع لجأت إليها النساء من أجل الحب أو للتخلص من أزواجهن، سواء انتبه إليهن أولئك أم لم ينتبهوا”. والمضمون هنا صريح يتعلق بصفة خلقية مذمومة، وهي صفة الخداع.وفي اليوم العاشر يستلم “بانفيلو” زمام الرئاسة الشرفية ويوعز إلى الرواة كي يرووا قصصًا تدور كلها “حول من يتمكن، بالشهامة والمروءة، أو بعمل عظيم وجليل، من تحقيق إنجاز كبير”.

ويضيف بوشعير “في هذا المحور تتراءى من خلال السرود المختلفة كثير من القيم النبيلة، من مثل قيمة الكرم وقيمة الوفاء بالعهد، وقيمة الصداقة، وقيمة التضحية وقيمة الشهامة، وقيمة الشجاعة، وما إلى ذلك، وهو ما يذكرنا بسرود مماثلة في الأدب العربي، وخاصة في “كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفع، و”البخلاء” للجاحظ.وقد تبدو هذه الرؤى والمضامين المباشرة في مواقف صريحة من بعض الطبقات الاجتماعية في عصره، على نحو ما يطالعنا في مواقفه من طبقة المثقفين، وطبقة الكهنة والقساوسة، وطبقة النبلاء، وما إلى ذلك”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى