الديموغرافيا التي تتغير..هل تغيّر سوريا؟

يمكن التوقف عند التصريح الذي أدلى به مدير مكتب المركزي للإحصاء في سوريا إحسان عامر، منذ أيام، لصحيفة «البعث» التابعة لحزب «البعث» الحاكم في سوريا.

ومن دون الخوض في التفاصيل، أو كشف نتائج أبحاثه، قال عامر إن المكتب أعدّ «مسحاً ضخماً جداً العام الماضي تم تنفيذه منذ عام مع «هيئة شؤون الأسرة» حول حالة السكان، وذلك لمعرفة الحراك السكاني والنزوح، وقد اعتمدت نتائجه وقدّمت إلى الجهات الحكومية المختصة»، مشيراً إلى أن «هذه المسوح أعطت مؤشرات كثيرة ومهمة عن البلد، وأن نتائجها ستبقى بين المكتب والجهات الحكومية المختصة»!

وبرغم أن سياسة المكتب المعتادة كانت التعاون مع الباحثين والصحافيين، إلا أن المكتب تلقى تعليمات من رئاسة الوزراء بإبقاء أرقامه محصورة بالجهات الحكومية خلافاً للعادة، وذلك فيما عدا «الرقم القياسي للأسعار، والمتضمن السلع والخدمات ومجموعتها الفرعية والرئيسية».

وتعد البحوث السكانية أمراً اعتيادياً في سوريا، إلا أنها تكتسب أهمية خاصة الآن، بسبب حالات النزوح الديموغرافي الهائلة التي حصلت بسبب الحرب من مناطق البلاد المختلفة، والتي خلقت واقعاً سكانياً مختلفاً عما كانت عليه الحال من قبل.

ووفقا لبيانات نشرها «مكتب التنسيق للشؤون الإنسانية» التابع للأمم المتحدة (اوتشوا) فإن أكثر من 7.5 ملايين شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، بل إنه في فترة تغطي الأشهر الستة الأولى من هذا العام، نزح ما يقارب المليون ونصف المليون شخص، بما يوحي بمستوى الانزياح الذي يحصل في بنية البلاد الديموغرافية.

ووفقاً لبيانات «اوتشوا» فإن محافظة إدلب هي المنطقة التي سجّلت حركة النزوح الأكثر كثافة خلال الفترة المذكورة، بسبب طبيعة المعارك التي جرت في المحافظة في هذه الفترة من العام، إذ بلغ عدد النازحين الجدد 358666 شخصاً، تلتها الحسكة بـ222481 شخصاً، ودرعا بـ200 الف، ثم الرقّة التي سجّلت 155 ألف شخص، وحمص 105 آلاف، وحلب 60 ألف نازح. وتظهر خريطة الأمم المتحدة أن 90 ألف نازح عادوا إلى محافظة إدلب خلال الأشهر الستّة المحددة، و67500 شخص عادوا إلى الحسكة، كذلك عاد 62 ألف نازح إلى حلب، وسجّلت درعا حوالى 20 ألف عائد.

واستندت النتائج إلى معلومات جمعتها الأمم المتحدة لحوالى مليون و200 ألف من النازحين داخل المناطق السورية بين كانون الثاني وتموز العام 2015.

من جهتها، تشير أرقام دراسة في تاريخ مشابه لـ «الشبكة السورية لحقوق الإنسان»، وهي جهة معارضة، إلى أن غالبية النازحين هم من ريف دمشق (2.2 مليون شخص) الذي شهد دماراً كبيراً ومعارك طويلة لم تتوقف بعد، يليه حلب بما يقارب المليونين، ومن ثم حمص انتهاء بالحسكة.

وتتنوع وجهات النازحين، فمنهم من اختار مناطق قريبة اعتقدها آمنة، ليقوم بعدها بحركة نزوح ثانية، ومنهم من قادته «حنكته» لاختيار الأماكن المرجحة لحالة من الاستقرار النسبي أكثر من غيرها، كما جرى مع العديد من نازحي ريف حلب ممن اختاروا مناطق اللاذقية وطرطوس بعد السنة الثانية من الحرب.

ووفقا لإحصائيات «الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان»، بالتعاون مع «المعهد العالي للدراسات السكانية» في دمشق، فإن «ثلث السكان قاموا بحركة نزوح داخلي»، وأن ربع السكان، والمقدر عددهم بـ 5 ملايين نسمة، مقيمون في أماكن غير اعتيادية لهم. وأشارت الهيئة في إحصائياتها «التقديرية القابلة للتغيير» إلى أن أربع محافظات كانت جاذبة لحركة النزوح وهي دمشق، طرطوس، اللاذقية، والسويداء.

وتضاعف عدد سكان هذه المدن بدورها، ما شكل ضغطاً كبيراً علـى قطاع الخدمات، بشتى أنواعه، كما ارتفع معدل التنافس على المهن التي تقلصت بدورها بسبب خروج معامل عديدة من الخدمة. إلا أن ابرز التعقيدات كانت بالاختلافات الجوهرية بين البيئات الطبيعية للنازحين والمقيمين، على المستويين الطبقي والديني.

وفيما يظهر الأول في دمشق بين نازحي الغوطتين وأهل المدينة، يظهر الثاني بين نازحي ريفي حلب وإدلب وسكان محافظات طرطوس واللاذقية والسويداء. وبرغم أن حوادث فردية قليلة سجلت تعكس التنافر بين نمطين من التربية والتأهيل، إلا أن كثراً يعتقدون أن تحول النزوح إلى استقرار سيغير في ملامح الوجه السابق للمناطق، بسبب تغير البنية الديموغرافية.

وتساهم الحرب بوجوه أخرى في هذا الشكل من التحول، إذ سجلت محاولات للتبادل «الديموغرافي» بين مناطق في الجنوب وأخرى في الشمال، لغايات إنهاء الحصار، كما سجل في محاولات فك الحصار عن بلدتي الفوعة والزهراء من جهة، والزبداني ومضايا من جهة أخرى.

وبرغم أن هذه المبادلات تحصل بين المقاتلين، إلا أنها في حالات معينة تشمل المدنيين، ولا سيما عائلات المقاتلين. وتبدو الوجهة الرئيسية في هذه المبادلات مدينة إدلب التي يسيطر عليها «جيش الفتح»، وهو ائتلاف فصائل إسلامية متحالفة مع «جبهة النصرة»، فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا. وترفض «النصرة» أي شكل من أشكال الحكم العلماني، وهو أحد أسس التوافق الدولي حول مستقبل سوريا.

كما يرفض كثر ممن لجؤوا إلى مناطق آمنة أسلوب الحياة القائم منذ عقود هناك. وتبدو محاولات التأقلم على الأقل للناظر، استثنائية لا عامة، كما لا تزال حالات الارتباط غير مألوفة وخاصة، تقتصر على الشريحتين الأكثر انفتاحاً بين البيئتين، وهما شريحتان ضيقتان، فيما الغالبية العظمى من الجانبين، تتراوح بين بيئة منفتحة للغاية وأخرى محافظة جداً.

لكن قلة هي التي ترجح حصول تصادم، على الأقل في الظرف الحالي، فيما يصبح هذا الاحتمال ممكناً، مع تغير الظروف، ومرور الوقت، إلا في حال قادت الحاجة للتآلف والحياة المشتركة الأطراف المختلفة لتنازلات تسمح بـ «العيش المشترك» ضمن «حدود احترام كل فئة لمساحة الآخر»، وهو ما يعتمد على وجود تشريع يحرص على حماية العلمانية، الأمر الذي لا زال التوافق الدولي والداخلي بشأنه موجوداً.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى