الرجل الرابع” .. لذة النص وتكسير العجز

 

مثلت المجموعة القصصية المعنونة “الرجل الرابع” للكاتب د. نادر عبدالخالق، ذات الطرافة والمغزي، في تأويلي رمزية “الرجل الرابع” أنها الإدارة الوسيطة الهشة التي تنصرف للقشور دون الجوهر، وإلى الشكليات دون أداء رسالتها المنوطة بها بفاعلية، في ظلال الجدل الناشب بين الجديد والعراقة، وإلي تملق الرجل الرابع للرجال الثلاثة الذين يسبقونه طبقًا للترقيم: “يلهج لسانه بالذكر والشكر لمن فوقه”، وفي قصة أخرى يتحدث “الرجل الثاني” متملقًا عن الدور والمهام الجسام المنوطة بالرجل الأول، في رحاب “المنظومة” المتكلسة “غير السعيدة”.

وتشكل القصص هذا “النزوع المعرفي” لإثارة دهشة القارئ بمزيج غرائبي مبطن بالسخرية الناجزة، فالناحية الأسلوبية تعتمد تقنية تقارب “الفنتزة”، و”الفانتازيا” طبقًا لمعجم مصطلحات الأدب هو النوع الأدبي الموغل في تخييله، فهي الثوب الذي يرتديه الجسد القصصي لتمثيل أوجاع الواقع المعيش، مع لمحة تقدير لجهود المواءمة مع الواقع، ومحاولة إحتوائه وتحسينه والرقي به قدر جهد البسطاء الطيبين ملح الأرض وروائها، والأمر على تفصيل.

واللون القصصي بالقصص يقوم على مفهوم “لذة النص” من حيث توليد النصوص متعة مغايرة للمعتاد في القراءة، بكسر أفق توقع القارئ، وتحقيق عدم استقراره، ليعيد إنتاج النص، ومن ثم تبديل واقعه وتحسينه، حيث “الفنتزة” رغم مفارقة منطق الواقع بالتعبير الفني، فهي تشتغل في منابعها على الواقع ذاته، لتشكل تلك المفارقة بآلية “المبالغة والتضخيم” خطابًا فنيًا ضديًا للواقع بهدف تحسينه، لذلك جاءت عتبة الإهداء المصاحبة لتشير إلى المشاركة مع آخر (= قارئ) قادم لإحداث التغيير المنشود.

القصص رغم وضوح عباراتها، ولذة النص بإجراء مقاربة فكرة “الفنتزة” المبطن بالمبالغة الساخرة، فهناك إشغال للقارئ، وترك مساحات للتأويل رغم الإشباع بالتكرير وتأتي مفردة عنوان المجموعة نحتًا من عنوان القصة الأولى “مؤتمر .. الرجل الرابع”، وبالإبحار في قصص المجموعة نجد دائمًا مثيل “الرجل الرابع” مضمرًا تحت أرقام أو هيئات أخرى، بما يعني تحويل الشخصية القصصية “الرجل” إلى هذا النموذج الموصوف بسمات اجتماعية ضارة يهدف القاص لإدانة فعلها، وإبدال نهجها العقيم.

ويغذي القاص مضمار قصصه بالتناص، سواء مع النصوص الشريفة، نموذجًا “طرائق قددا”، “هل إلى خروج من سبيل؟”، أو التعبيرات الإعلامية الشائعة من مفردات عواصف العولمة، مثال “الجيل الرابع والخامس من الحروب”.

كما يحقق فكرة عين القاص الطوافة التي ترى الشوارع وتمتزج بأنينها، ففي قصة “ثرثرة على رصيف المنتزة”، تنقلنا مفردة “رصيف” مباشرة لأدب اليومي المعيش، وأفق الكتابة الجديدة، كما تتوافر بالقصص صخب الأحداث المؤلمة، حيث تبدلت لحظات القصص المرصودة من لحظة مأساوية إلى مأساوية اللحظة، حيث المأساوية أصبحت صبغة عامة للزمكان، فأفعال اليومي صباح مساء جميعها مؤلمة حسب القصص: (المواصلات / الإزدحام / انحسار الدخل / نفي العلمية / العشوائيات أنفاق مظلمة في قصة “نكزة” / عسر الزواج بمفردة كاشفة: “بعض الجرامات المعدودة من الذهب الأحمر” / … إلى آخره من دوال معبرة)، حيث الصخب واللون والتنويع الأسلوبي في ضمائر الحكي، والمناجاة، والفنتزة، وكثافة التفاصيل، أدوات فنية للتعبير عن الواقع المعيش المسكين.

وثيمة “العجز” تم تجذيرها بتنويعات وطرق أسلوبية عدة، منها طريقة إيقاعية بالتسجيع (حاملي الدرجات الفوقية والمواهب الذكية، والخطط العبقرية)، ويستعمل القاص تقنية التكرار بالإشباع على مستوى لفظي، وصب ملح اللغة “بعدًا بعدًا، سحقًا سحقًا”، “بعدين، وسحقين”، وتقدم هذه التوابل ملمح السخرية بدال لغوي للحنق والغضب والأسف لمن لم يلحق بالإجراء السطحي، مثل اللحاق بالمؤتمر أو عمل “لفة الشال المتقنة”، دون العناية بتحقيق أي منجز حقيقي، بما يشير لفكرة القاص المركزية وهي السخرية وإدانة “العجز”، وإنكار عدم الشروع في إزالته، واستسهاله والوقوع في أسره.

والناحية الأسلوبية بالقصص بالجملة القصيرة المشحونة بمفردات موظفة بدقة تلقي ظلالًا لمعان كثر، نموذجًا في إدانة “المنظومة”: “ويخطبون خطبًا عالية النبرة”، فإضافة إلى الفعل المضارع الذي يشير لديمومة الخطابة، نجد إضمار الشعارات المخدرة كنبات سيئ السمعة في حديقة المنظومة للنباتات السامة، ويقارب التخدير طقوس التبتل في رحاب السطحية والاستسلام للعجز، فكأن الشكل استوفي القضية، فالقصص تذكر أنه قد شكلنا لجانًا واجتمعنا وحرصنا حرصًا بالغًا على الطقوس والأشكال، نموذجًا: ترتيب الأوراق على الموائد بحرص، وتدوين البيانات، والسؤال الجمعي صفوفًا صفوفًا ضجرًا، لكن المحصول عجزًا مضاعفًا، وتملقًا لسادة المنظومة دون فعل ناجز، فالكل يرفع رأسه في اتجاه المنصة، وتنعقد حلقات الخطابة

 والرجل الرابع وهيئته الاستشارية يتوسطونها، وكأنها كعبة يطوف حولها المريدون في انتظام وهيبة، بتعبير القصص، ويدعم آلية التشويق بالمبالغة تلك الصفات الطريفة التي تقترن بالشخصيات وتلازمها لدرجة إسقاط بعض الأسماء أحيانًا، بحيث إذا انتفت صفاتهم تلك تلاشت تلك الشخصيات، نموذجًا: “الرجل الوافد”، حتى في اختيار اسم الرجل الرابع “أوسام الطويل” نجد الاسم إشباعًا وتكرارًا لفكرة الصفة الملازمة له بالمنظومة.

كما أن هناك نقض فكرة “المؤامرة” كمشجب نفسي للدواهي، حيث يشير بطريق خفي أننا في الحقيقة نتآمر على أنفسنا، فتطرح قصة “مؤتمر .. الرجل الرابع“، الحوار المتعدد من هيئة رسمية برئاسة الرجل الرابع، حيث يسأل أنماط من الشخصيات سؤالًا: “كيف نواجه المشكلة؟”، فيجيب أحدهم: “أي مشكلة سيدي؟ المشاكل كثيرة”، إن غياب الوعي بضرورة تحرير المشكلة ورؤية عناصرها، وتشخيص بواعثها وآلامها جميعًا، وترتيب حق الأولوية للحل طبقًا لدرجة خطورتها، وأن هذا نصف الطريق للإجهاز عليها، هذا الغياب يجسد السطحية الطاحنة، والعجز في تثمير المنظومة اليابسة.

وحيث إن المتوالية القصصية تعمد إلى تقديم فكرة قصصية مركزية بتنويعات فنية متصلة ببعضها البعض، فتكتسب المتوالية بهجتها من مثول الشخصيات “النمط” وتكرارها كعمود فقري بين القصص، فنجد هذا الشغف بالرسوم والنقوش في القاعة، والديكور المبهر، والتي حققت فكرة المعادل الموضوعي للشغف بالهوية، دون تخصيبها بالمعاصر والمنهج العلمي، فيتردي الوعي الجمعي في احتساء مشروب “العُجب” بالذات المسكر، بما يؤدي يقينا لسحق “الهوية” ذاتها، في مواجهة المنظومة لعاصفة “العولمة” الحارقة.

ونجد ذات الثيمة بذات الكثافة الفنية، والعناية بالتفاصيل، واللون، ودينامية الحركة في المشهد القصصي، من خلال الوقفات الوصفية الشارحة، بقصة “لفة شال”، حيث حضور مفردة القاعة كالاعتياد الفكري في تمثيل القاعة لعقم الجدل ويبوسة الفكر، وقزمية الفعل، وحيث تقع في ركن قصي بمبني شاهق في صدارة مباني عملاقة.

وهناك باستمرار اتجاه المنظومة الدءوب نحو قولبة الإنسان، بتوحيد الزي، والخضوع لمجئ كوكبة “سكرتارية الإدارة والمساعدين والبطانة والحاشية”، وطرح الأسئلة وحضور المنصة الحاكمة التي تعقد على الدوام الاختبارت.

ونجد العجز مجسدًا  في قصة “الجمل والنخلة” ممثلًا في شخصية “حمودي” الذي لا يواجه عجزه، حيث يمارس التضليل، دون السعي الجاد لنفي “العجز” بدلًا من تبريره، ونجد العناية بالتفاصيل، والإشباع بالتداعي اللغوي المبهج “ذهبوا لأطباء النفس والأعصاب والشعور والأحاسيس”، والاهتمام بالقشرة والفخر الاجتماعي رغم العقم: “القاعة ممتلئة عن آخرها .. والأضواء تفوق كل تصور”.

ويبقي أن هناك الإنصراف إلى الجهالة والشعوذة، حيث لا يوجد إيمانًا بالعلم في الأساس: “قراءته للطالع كانت وراء تجاوز كل هذه الأزمات وفي قصة “فايق العارف”، نلاحظ السخرية المبطنة للاسم الذي يحمل نقيض الصفة الجهولة المجسمة في الشخصية القصصية. والاشتغال الأسلوبي كشأن القصص في اعتماد التنويع بين آليات سردية، وضمائر السرد، وفي القصة نجد البداية بمناجاة –حديث الذات القصصية لنفسها – ثم الإنتقال للراوي بضمير “هو”، وبالقصة يمنح “التأويل” طاقة للتشغيل، وتحقيق إعادة إنتاج النص (لذته)، فشخصية “رضا” تحمل فكرة الحلم لتثوير الواقع وتبديله، حيث يحضر شخصًا في حلمه ويخبره بأمور غيبية فتأتي متحققة في الواقع، وتحت إلحاح القلق يذهب “رضا” للعارف للاستشفاء، فيقع العارف نفسه وابنه تحت ضرس الحلم “النبوءة”، ونجد “الحلم” وسيلة ناجزة للفكاك من “العجز”، حيث شحن الإرادة لنفيه: (مقاومة “رضا” وحرصه على الخلاص أكبر من سيطرة العارف عليه، حتى أدرك سبيله واستطاع الفكاك والإنطلاق إلى خارج المكان).

وفي قصة “فكرية” نجد إدانة العقم الإبداعي، بالحياة الثقافية، والتي تسقط مضرجة تحت ضرس الوساطة، والإحتفاء بالشكل دون المضمون، والقصة كالمعتاد مشحونة بتفاصيل وملح لغوي، حيث السيد هاني الفرحان مدير إدارة المعرفة “الجزئية”، وتوظيف مفردة “الجزئية” هنا لتصك المنظومة الثقافية بالتكلس والنقص، وتأتي صفة التملق، والمناشط الثقافية العشوائية، وإدانة الإحتفاء بالحدوتة على حساب القصة الفنية المحدثة، والوقوف والعجب بالموروث الحكائي دون تخصيبه بذائقة العصر.

والقصص رغم وضوح عباراتها، ولذة النص بإجراء مقاربة فكرة “الفنتزة” المبطن بالمبالغة الساخرة، فهناك إشغال للقارئ، وترك مساحات للتأويل رغم الإشباع بالتكرير، فتحقيق القلق للقارئ يضمه ويثوره نحو نقض “العجز”، وتكلس “المنظومة” لتحقق الفاعلية المرجوة، لواقع أرقي.

ونجد في الخاتمة هذا الاستعمال الدقيق والموفق لعلامات الترقيم، فهناك عزف في المجموعة بواسطتها، ولا شك أنها ثروة القاص يجب أن ينفق منها بما يدعم فنه القصصي، وقد كان.

 

ميدل إيست أون لاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى