الروائي حميد المختار يقدم: شخصيات تتجاوز الممنوعات والمحرمات في رواية (تابو)

 

الروايات التي تكسر التابوات (السياسية او الجنسية او الدينية) تعد مغامرة ، وقد تكون سببا للشهرة، فرواية (آيات شيطانية) للروائي “سلمان رشدي” حققت نجاحا كبيرا بسبب كسر التابو الديني، مثلها رواية “نجيب محفوظ” (اولاد حارتنا) او رواية (موعد مع الشيطان) للروائي الأردني “وائل البيطار” ، وهناك من حاول كسر (التابو) السياسي، مثل رواية (1984 ورواية مزرعة الحيوان) للروائي “جورج إورويل” التي تناولت الدكتاتور ستالين ، ورواية (عناقيد الغضب) للروائي “جون شتاينيك”، اما الاتجاه الثالث من التابوات وهو الجنس فكانت حصته من الروايات اكبر اولا بسبب وجود الحرية الجنسية في اوربا وامريكا او ما يطلق عليه (إبروتيكية) اما عند العرب والمسلمين فيعد تناول الجنس هو كسر (للتابو) الذي يعني (المحرم والمقدس والمحظور والممنوع) ويمكن الاشارة الى روايات مثل (بكارة) للروائي التونسي “الحبيب السالمي” ورواية (بائع الهوى) للروائي  السوري “جميل ظافر نهرا” ورواية (غانيات) للروائي اللبناني “سامي موون” ورواية (سدوم) للروائي المغربي “عبد الحميد شرقي” في انها كسرت تابو الجنس.

يقدم الروائي “حميد مختار” شخصيات تتجاوز بمواقفها وسلوكها وكلامها الانواع الثلاثة من التابوات في روايته (تابو) وهو عنوان يشير الى وظيقة السرد التي حاول فيها الروائي ان يجعل الصراع يكون بين (العقل والروح والشهوات) وهذا يحتاج الى مهندس للسرد وليس كاتبا فقط  أو (قارئ) عاديا !وبعيدا عن علم الحساب كانت مداخلات العقل في هذه الرواية اكثر حيوية من العاطفة (الملذات والشهوة) وكذلك (الروح والمعتقدات)! في بداية الرواية يقتبس الروائي مقطع من مسرحية “بوريس غودونوف ” للشاعر الروسي”بوشكين ” شمس الشعر الروسي، وهذه المسرحية قدمها بوشكين لقيصر روسيا الكساندرا الاول عام 1830 بعد الغاء عملية النفي وعودته الى سان بطرسبورغ”ستمضي السنون وسيعثر راهب دؤوب\ على كتبي الغيورة المجهولة، ويشعل كما فعلت\ انا مصباحه ويعي كتابة القصص \ الحقيقية..”ص5

في الفصل الأول من الرواية يأتي عنوان (أيروس نامه) وهو عنوان للدخول في علم الاساطير، وهناك يتعامل السارد مع الشيطان كأسطورة ! غير مسلم بها، ولا اعرف لماذا استرجعت كتاب (نقد الفكر الديني) للمفكر السوري “صادق جلال العظم” وهو يعيد الاعتبار للشيطان “أنه طريد الجنة هذا العابد الزاهد ما الذي فعله ليلاقي كل هذا الويل والبلاء من إله سمح له ان يفكر ويتحاور لكنه لم يسمح له ان يعصي او يرفض هذه الفكرة” ويعتقد السارد ان الشيطان موجود معنا ومثلنا ويمارس نفس حياتنا (لكنه لا يموت) ويعتقد السارد ان الملائكة تعاطفوا مع المشكلة الابليسية واعتبرو ابليس مظلوما”لأنه رفض ان يسجد لآدم الترابي الاحمق العجول المتسرع القاتل الذي يبحث عن خلوده وهو في جنة الخلد مما دعا ابليس ان يضحك عليه ويعطيه تفاحة الغواية”ص16 هذا كله يقول السارد وهو البطل (عبد الحميد المختار) – لاحظ تشابه اسم مع اسم الروائي حميد المختار- يقول قررت (التحالف انا الآخر مع فكرة شيطاني الصغير)

شخصيات  رواية “تابو” لا تكتفي بتقديم الحياة الاعتيادية وما يصيبنا من مشاكل وحروب وسجن ومعتقلات ومقابر جماعية بل تشاركنا بما يحدث من غرائبية تدعو الى التأويل ، فهناك لقاء وحوار مع الموتى”نزلت السلم فصادفتني امرأة عجوز تمسك حقيبة قديمة، تجاوزتها مسرعا ثم توقفت فجأة متذكرا أنها تشبه أمي”ص9 ، من خلال الاستذكار وتحليل الحاضر يتم كسر التابو السياسي بتوجيه انتقادات لاذعة تطول النظام السياسي الديمقراطي والاسلام السياسي ، مع العودة الى عهد النظام السياسي الدكتاتوري في السرد يمتلك الروائي القدرة بالاحتفاظ عن ماهية الاحداث رغم التلاعب بالزمن ، وقد حقق  رؤية فنية خالصة المعاني وجعل الشخصيات التي هي كثيرة ولكنها غنية ايضا تنبض بالحياة مرورا بمجموعة الحوادث التاريخية وما تعانيه الشخصيات في الحاضر من ظلم وحرمان ، وكل هذا يتم بواقعية انتقادية “لقد احتلت الطقوس كل شيء في حياتنا وعطلت عجلة العمل والفعل والممارسة والفكر، لأننا كنا معتقدين في قرارة انفسنا ان الموت قريب ولا حياة لنا هنا على الاطلاق، نحتفي بالموت ونخاف ملاذ الحياة ومتعها وكانت هذه فرصة للسياسيين ان يكملوا مسيرة الاجندات المليئة بالخديعة والذل والهوان… ربما هي لعنة الحاج عبد القادر النسر الثانية .. في عهد الديمقراطية هذا صار اعلان التدين على الملأ ظاهرة صارخة لكن الناس صاروا يكتمون عشقهم للحياة وثمة السقوط في ملذات الرذيلة وبيع الشرف والخيانة والخديعة فكان ظاهرا فاسدا وباطنا شديد التدين واليوم ظاهر شديد التدين وباطن فاسد “ص39

لا توجد شخصية (البطل) بالمفهوم الكلاسيكي للبطل، قد يوجد السارد (عبد الحميد المختار) الذي من كثرة الشخصيات المرتبطة به نكاد ننسى وجوده ونعد السرد من وظيفة الروائي، منذ البداية نشعر بالحيرة وهو يؤكد وجوده والحكومة تعتقله بتهمة انه مقتول” الضابط: جاءني تبليغ من وزارة العدل ان ثمة جريمة حصلت وقتل فيها رجل دين\ انا :ومن تكون الضحية لو سمحت؟\ الضابط: للاسف انت!!\انا: كيف يعني فهمني ارجوك؟\الضابط: المجنى عليه هو الشيخ عبد الحميد المختار|انا :اسمع ..لي صديق تعرفت عليه من زمان وهو رجل دين بعمامة اسمه عبد الحميد المختار\ الضابط: نعرف يا سيدي. ولكن للاسف ليس هو\ القاضي: جاءنا ابلاغ بوقوع جريمة شنيعة وان المجنى عليه جنابك\ انا: ولكنني لست رجل دين ولم البس العمامة في حياتي.\القاضي :نعم اعرف ذلك لكنه يحمل اسمك وصورتك وكل شي يخصك!”ص32

جميع الشخصيات الاخرى (قاسم الاسمر- شالح- كشكول- الشيخ خلف- خميده- فرج- بدرية- شكيح- سعد -سموعي- نجم المخبل- محمد علي- ابو عباس- سهى – رجاوي- عبود- مزاحم قواد الحاج- امولة- حجي نبيل – كاظم طابور- داود الاعمى- سيد مهدي – بنات فلفيل- عبد الله- شغاتي – الجد الاعمى- موسلى- فاطمة شنونة- نجمة- طاكة -حنون- حميد- مطشر- – صبرية الهة الانوثة – سليمان التاجر اليهودي وابنته- زاير نعيم وابنه فاضل- حجي فوزي) كل هذا الكم من الشخصيات يبرز لنا مفاهيم جديدة في البناء السردي تمس مشاعرنا  واحاسيسنا وتثير لاانفعالات بشكل رائع وغريب .

رواية (تابو) للروائي “حميد المختار” ليست رواية من (السهل الممتنع) بل هي رواية صعبة،  كل فقرة فيها مشاعر سياسية أو فكرية أو أجتماعية ، يدس في ثناياها ملاحظات ولمزات توقظ المتلقي وتحس ما يريد أن يقوم بنقده والاعتراض عليه ويجعل القارئ يشاركه بنفس الحماس حاولت ان أختار من الرواية بعض الشخصيات التي تتصف بالغرابة وتدعو الى العجائبية لكنني وجدت نفسي ان كل الشخصيات تتعاطى الغرائبية والعجائبية ، كما حاولت  ان استخدم العرض والتلخيص لكنها من الروايات غير قابلة لذلك! فلم يبق الا استخدام (المحاورة ) مع النص الذي يحمل مفهوم (الفيولوجي) ويعني “إحياء النصوص القديمة” من خلال معاودة النظر فيها! وجعل ما في هذه النصوص – حتى المقدس منها- هناك  ما يستحق المراجعة والنقد، ويتضمن قوة التأويل.

هذا ما استقر عليه المنهج، فهناك الغريب وايضا الاكثر غرابة، مثل (نجم المخبل) الذي يرى ما لا يراه اخرون (نحن بالمقارنة معه عميان لا نرى ابعد من ظلنا على الأرض) “نجم المخبل ابن القطاع المنكوب صاحب النوبات الشيطانية..جاء ليمنحنا علامات العوالم الاخيرة ويحذرنا من مغبة الوثوق بهؤلاء القادمين على كفوف الراحة بالمحابس والعباءات والاحجار الكريمة واللحى والقفطانات والبدلات الانيقة، انها نذر الخوف الاول وبداية انهيار لا قيامة بعده، الويل لكم الويل..هكذا ظل نجم المخبول يصرخ وهو يطرق ابواب النائمين في العسل”ص55 .الروائي لا يرتكن الى ايقاع محدد في السرد هو ينتقل بين المفاهيم الفلسفية والاسطورة والواقعية الانتقادية متجسدة في الشخصيات والحوادث، احيانا تبدو العبارات عارية من أي تأويل خارجي ، لكن عند التعمق في التأمل مع القراءة تكتشف اشياء لا تعبر عنها الكلمات بل تحتاج الى استجابة القارئ ” ألا جدي الحاج شغاتي فحين فقد بصره ظل رائيا خطيرا يهجس الأفكار ويلتحف بدفء أبنته فخرية امنا الصبية الولادة التي ملأت البيت حركة وصخبا امام أنظار أبي.. تلك هي أمي، مهد طفولتي وعنوان دفئي وشيطنتي، في حضنها تعلمت البكاء والضحك ومن يدها عرفت اسرار المشي على الماء والطيران في الهواء وترتيب سلالم الاحلام ” و”أتذكر اخي سعودي واللايت الفضي الذي يضيء خطوات الداخلين الى العماء الملون”

نجح الروائي في استعراضاته الانتقادية التي تطول النظام السياسي الدكتاتوري والنظام الحالي، وهو يتناول بالنقد حالات  خاصة للشخصيات ويعتمد على الافعال ،تتبع الخطوط العريضة لهذه السرديات توصلنا الى خليط رائع لعناصر السرد من الأمكنة الى الحبكة الدرامية الى الشخصيات الغريبة ” حين تبكي صبرية يزداد جمالها توهجا وتشرق عيناها بالدموع كما لو كان كحلا ساحرا يضفي بلسماته السحرية على الوجه، شفتاها فاكهة القرى البعيدة تنضج منتظرة القاطفين، حين مات زوجها الثالث، تكالب عليها ابناء عمومتها ووصل الامر حد التنازع والعراك..صبرية الهة الانوثة العطشى وملكة الافرشة الساخنة”ص147 ، ومن الجمال والكلام عن الجنس ينتقل بنا الى حيث الحزن الكبير ” بقيت – صبرية- في الايام الاخيرة قبل ان اخرجها من ذاكرتي تبكي على قبر ابنها الشهيد الذي مزقته قذيفة طائشة واحالته الى اشلاء ممزقة في الحرب، كانت تبكي على قبر حجري صغير في وادي السلام، غار جمالها وانحفر الوجه الابيض بدموع سوداء قاسية، انها دموع الحروب المدوية التي ملأت صبرية وباقي النساء بآهات وفقدانات لا تنسى”ص148 ن، بهذا الشكل يدين الروائي الحروب العبثية للدكتاتور “عاد عمي كشكول وقد نهشت ربلة ساقه اليسرى ذئبة شرسة، ثم عاد رجال محلتنا وجيء بالقتلى وهم ملفوفون بالاعلام الممزقة، لكن الاسطة مطشر لم يعد..وبقي فراش عمتنا باردا بلا رجل يملأ عليها وحدته ويطرد صراصير الوحشة وهوام الظلام”ص150 .

يستعين السارد بالتاريخ الحديث ليخلق شخصيات مظلومة لاتملك اي ذنب الا انتمائها الديني او المذهبي، ومن حادثة الفرهود في العراق التي تعرض لها اليهود وادت الى هجرتهم الى اسرائيل تأتي حكاية (سليمان التاجر وأبنته تماره) حينما يرفض زاير موسى ان يأخذ أبنه قاسم بيت اليهودي سليمان التاجر المهاجر الى اسرائيل على الرغم ن ان التاجر هو من وهب قاسم هذا البيت عن طيب خاطر”كان سيلمان وابنته تماره يبكيان دما وهما يودعان قاسم على الحدود ..وحين انجبت تماره شموئيل ابنها الوحيد اخبرته بالحقيقة قائلة:ولدي انت ابن رجل مسلم بقي هناك في العراق وحين أموت عليك بالعودة الى هناك والبحث عن اجدادك.. وفي تداعيات الفصل الاخير من الرواية يقول السارد”كان شموئيل ابن عمي قاسم يحمل حفيدته نيتا ذات الخمس سنوات، بينما ابنه دانيال وزوجته ساره يسيران خلفه” وعن الاحزاب التي جاءت بعد 2003 لها نصيب من المشاكل وكذلك من الانتقاد”جاءت الاحزاب واحتلت الاماكن الانيقة وصارت مقرات لها وكثرت السيارات اللامعة التي اغلقت الدروب والطرق المؤدية للدرابين الموحلة، كانت لهذه الاحزاب سطوات وامكانيات لا يمكن لأحد من العامة امتلاكها فقد تبين انها هي التي تعين الدرجات الوظيفية في الوزارات وهي التي تختار الاسماء ” ويختلق السارد خمسة اسماء اجنبية لشخصيات بمواصفات مختلفة وهم (الفارو دو كامبوس- البرتو كايرو- ريكاردوس ربيس- برنادو سواريس- انطونيو مورا) “ثم تنتهي الوجوه الخمسة لفرنادو ..وفريد الدين العطار صار وجها من الوجوه الخفية في الممارسة الحسية.. ثم سيأتي وجه محمد الشهواني ويليه جمولي الكوري وسامي البصير واخيرا نهاوند..”ص174

لا تسطيع اي دراسة ان تشمل هذه الرواية بنظرة كلية ، يمكن يفعل كما فعلنا بأختلاس نظرة الى هذا المقطع او ذاك ، ونمر على الشخصيات  المدهشة وعلاقاتها وخصوصية اللحظة العراقية التي تدور بهم، وسينتهي القارئ الى ما تحس فيه شخصيات الرواية وهي لاهثة ومنفعلة وراء من جعلها تتورط ان تكون جزء من هذه الرواية (الرائعة) لما توفره من متعة غريبة.

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى