كتب

الرواية والرواية المعارضة

الرواية والرواية المعارضة…من الحقائق المسلم بها ولاتنكرها المباحثُ الفلسفية والدينية وحتى العلمية أنَّ الخلودَ ليس من حظ الإنسان الذي ما انفك يحاولُ إرجاء مصيرهُ الفاني وإطالة أمده في الحياة الدينيوية، لأنَّ مايعقبها مجهولُ وغامض مثيرُ للريبة قد يكون استراحةً في طيات العدم أو جزاءً بالنعيم أو العذاب أياً يكنْ شكل السيناريو فإنَّ سلطة الغموض مهيمنةُ على المُخيلة المسكونة بهاجس معرفة أبجدية المحطة القادمة، واللافتُ في هذا السياق أنَّ ماهو صنيعُ الخيال يخترقُ المحددات الزمنية ويكونُ مفاجئاً في ظهوره باعثاً للأسئلة من جديد الأمرُ الذي تراه في تشكيلة النصوص الأدبية المدوية بغرابتها والموهمة بعدم الاكتمال والمحملة بامكانية الإستئناف.

ماتنتهي به  رواية “المحاكمة” لكافكا باقتياد  المتهم  يوزف ك عشية عيد ميلاده الحادي والثلاثين إلى مقلع حجارة يقع خارج المدينة حيث يستسلمُ لإرادة الحارسين ويسندُ رأسه إلى حجر وبينما هو يترقب مصيره متابعاً تنقل السكين بين يدي السيدين يلفت نظره إنفتاح مصراعي نافذة في الطابق العلوي لبناء مجاور للمقلع هناك يظهر شخص ضعيف ونحيل ينحني ماداً ذراعيه إلى أقصى مايمكن.

هذه الخاتمة تضمرُ نواة  لقصة جديدة إذ يستبطنُ الراوي مايعترمُ من الهواجس والأسئلة في ذهن “ك” من كان هذا الشخص؟ صديقاً؟ إنساناً طيباً؟ إنسانا أراد المساعدة؟ طبعاً من الممكن تأويل هذا المشهد على المستوى الرمزي ويكونُ الشخص الذي يراه “ك” من  موقعه تلويحة أخيرة للأمل لكن هذا الموقف أعمق من أن يحمل على تفسير أحادي لذا قد يفهمُ من حيثيات هذا الواقع الروائي بأن كافكا أراد غرس بذرة جنينية  لرواية أخرى في حركة النص الأخيرة والحالُ هذه فإنَّ عمل كافكا كله ينحصر برأي كامو في حملِ القاريء على إعادة القراءة طبعاً ما قاله كامو عن كافكا ينطبقُ على أعماله أيضاً لاسيما رواية “الغريب” التي اشتغلَ الكاتب الجزائري كمال داود على ثغراتها من خلال نص موازٍ “معارضة الغريب” لمناخ الرواية الأولى.

جِغرافية النص

لاتنقلُ الأعمال الإبداعية صورة الواقع بمنطقٍ آلي وهي ليستْ نسخةً للمعطيات التي يقعُ عليها نظرُ الفنان بقدرِ ما أنَّ النص الإبداعي أو العمل الفني  رصدُ واكتشافُ للجزئيات الواقعة تحت طبقة من الأعراف والخرائط الذهنية المسبقة.

إذن ما يكسبُ  المنجز الإبداعي خصوصيته هو الجغرافيا الجديدة التي يتمُ تأثيثها على كنف اللغة أو اللون من هنا نفهمُ مغزى كلام أوسكار وايلد أن لندن ماكان فيها ضباب قبل أن يرسمهُ ويسلر معنى ذلك أنَّ الفن هو تمثيل حسي للواقع بمفردات تضيفُ بعداً جديداً للظواهر.عليه فإنَّ كمال داود تحركَ ضمن الحزام الجغرافي الذي تنطلقُ منه شخصيات “ألبير كامو”، وبالتالي يضعُ النص المعارض المتلقي أمام سلسلة من الأماكن التي تمتدُ على تضاريسها المحتويات السردية لرواية “الغريب” بعد أن يدشنَ  أخو القتيل المسندُ إليه بمهمة رواية القصة الغائبة افتتاحية مُعارضة “أمي مازالت على قيد الحياة” يمضي في استعادة ما علق بذهنه حول حيثيات مقتل شقيقه موسى مشيراً إلى هوية الجاني ومابدرَ منه وهو مشارك في مأتم أمه لافتاً في ذات السياق إلى إفادة مورسو بشأن تورطه في الجريمة وما سادَ من التجاهل لاسمِ الضحية في مرحلة مابعد الاستقلال ما زادَ الشعور بالقهر قهراً.

ومن بين كل مايتوالي في هذا المفصلُ تلفتُ إشارةُ الراوي إلى القرية التي كمل فيها النصف الثاني من طفولته وتعيشُ فيها أمه انتباه القاريء.وتعيدُ إلى الذهن حيثيات قرار مورسو بنقل أمه إلى دار العجزة واستجواب الإبن حول هذا الأمر وشعوره الفاتر برحيلها.

والأهمُ في هذا الإطار أنَّ المكان الذي أقيمَ فيه مأوى العجزة ليس إلا القرية التي تمضى فيها أمُ الضحية الشطر الأخير من حياتها.

لايتقيدُ مؤلفُ “الزبور” بتدوير الزوايا في نصه ولايكتفي باستبدال الموقع بين الضحية والجاني بل يغطي ماغابَ في النص الأول.

إذن يفتحُ كمال داود القوس على مشهد أوسع للحقبة ماقبل الاستقلال فيقولُ على لسان الراوي “كنا نعيشُ من دون تأريخ دقيق على وتيرة الولادات والأوبئة وفترات المجاعة” ولايتطلبُ فهمُ مغزى هذه الصيغة الخبرية مجهوداً ذهنياً فيحملُ المتكلمُ الاستعمار وزرَ ما عاشهُ الواقع الجزائري من البؤس والفاقة وحملات التجهيل والقهر المتفاقم، ويسردُ الراوي جانباً من سيرته ومعاينته لمحطات طافحة من التحدي والمعاناة من المعيشة الضنكة التي تقاسمها مع الأمِ بعد غياب الأب ومقتل شقيقه موسى.

ومايصعدُ من الشحنة الدرامية المؤثرة في النص هو بحث الأمِ ومتابعتها لاستجواب الشهود والأصدقاء واستفسارها عن اللحظات الأخيرة من حياة إبنها القتيل.

لا تتقيدُ الرواية بثيمة أُحادية بل تتشابكُ في تحبيكها الإبداعي سلسلة من الأزمات التي تخدمُ الفكرة الرئيسة في بنية النص إضافة إلى العقد الناجمة من العنف المؤسس يعاني الراوي من الصراع مع ظل الشقيق فيفشل بأن يكونَ بديلاً للغائب كما لايمكنهُ اقناع الأم بأنَّه يسدُ الفراغ الذي خلفهُ رحيل الأخ الكبير.

المُحاكمة

المنحي الذي يتخذهُ كمال داود في بناء عمله الروائي وانشاء البيئة الموازية لرواية الغريب من خلال نصه وفتح أضابير شخصيات فاعلة في رواية كامو يفرضُ سؤالاً هل يمكنُ أن يتحولَ الأدب إلى قاعدة للمُحاكمة؟ ومن الواضحِ أنَّ صاحب النص المعارض يهدف إلى تعرية ما يراهُ خطاباً استعمارياً من استعارات ومجازات الحكاية المروية.

وهذا ماتبين من خلال التقابل بين شخصيتي ماري الفرنسية وهي عشيقة مروسو وزبيدة عشيقة ريمون ضف إلى ما يستشفهُ الكاتبُ من وراء الملفوظات المعدنة للظواهر الحياتية.

لايتوقفُ كمال داود عند قشرة النص بل يضعُ الأفكار العبثية على المحك ويتناولها بنفس ساخر، فعلاً ماقدمهُ في تضاعيف الرواية وتطويعه للغة الآخر ورمي الأوراق على طاولته السردية يمثلُ ضرباً على وتر لاتنتهي تردداتهُ على المستويين الإبداعي والفكري غير أنَّ إمكانية القول على القول قائمة باستمرار لذلك يجوزُ تحميل النص على محمل تأويلي آخر لأنَّ “الغريب” على غرار نص المحاكمة لكافكا لاتُقفلُ على تأويل أُحادي مايقولهُ المسخِ عن منجزه الإبداعي بأنَّه يتمددُ إلى مالانهاية ينسحبُ على رواية ألبير كامو عليه فإنَّ لاحدود له لأنَّ كل تأويل هو مظهر من مظاهر الحقيقة على حد تعبير علي حرب يُذكر أنَّ هذا التمدد الإبداعي هو مايشتغلُ عليه الكاتب الإيطالي “الساندرو باريكو” في رواية “ثلاث مرات في الفجر” إذ يقولُ في المقدمة بأنَّ نصه السابق مستر غوين ومايحتويه من بذرة الحكايات يكون منطلقاً لنصه اللاحق وبالطبع إنَّ هذا المسعى في المضمار التأليفي يشهدُ على وجود مايسميه المفكر اللبناني “علي حرب” بوقائعية النص، وتقوم قوة النص على مدماك الفكر الحر وكسر جليد الأدلجة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى