الرواية والصورة الفوتوغرافية

 

إذا كان تطور الحياة وتراكم المُعضلات وتعري الإنسان من خصوصياته وتآنسه مع الآلة نتيجة توغل التكنولوجية إلى مسامات تفكيره وسيل الإحداثيات العلمية. إضافة إلى تدفق السلع بأنماط مُختلفة عبر قنوات مُتعددة من كل حدب وصوب يضعُ المفاهيم الفكرية والفنون والأجناس الأدبية أمام تحديات جسيمة وذلك لأنَّ حسياسية المُستهلك قد تبدلتْ، وباتت مُنساقة وراء المؤثرات الدعائية التي غزت أفق التفكير بحيل بصرية، فإن الأمر بالنسبة للرواية لا يبدو بهذه الدرجة من من التعقيد، ولك تفسير خروج الرواية من دائرة أزمة شحة القُراء وغياب المُرسل بكونها فناً مرناً يتقبلُ ما يتداولُ فى مُختلف الحقول من العلمية والإجتماعية والسياسية والنفسية والتاريخية والفلسفية في تركيبته بصيغ وأشكال مُتباينة، هذا علاوة على أنَّ الرواية تتفاعلُ مع غيرها من الفنون.

الرواية وهموم الإنسان

ويتسع إطار الرواية لتقنيات مُتنوعة كما تُحول الروايةُ جميع الهموم والهواجس الإنسانية إلى محور في منظومتها السردية، لذلك ليس من المتوقعُ على المدى البعيد أنْ يصل فن آخر إلى ما وصلت إليه الرواية من القدرة على استيعاب تشعبات الحياة وهضم المُعطيات الجديدة، ومُحايثة التحولات الراهنة، وإقامة التواصل مع الفنون الجماهيرية مثل السينما والدراما التلفزيونية، زدْ على ذلك فإن إنفتاح الرواية على فضاءات متنوعة، أسهم في تقويض ثنائية النخبة والعامة. مع الرواية لن يكون الفنُ مُحتكَراً لطبقة أو فئة عمرية مُعينة، بل يتمثلُ السرد الروائي لتطلعات الهامشِ كما يعبرُ عن الرؤية النخبوية في آن واحد.

عطفاً على ما سلف ذكره، فإنَّ كل ما يشهدهُ الواقعُ من التطورات المتتابعة ينعكسُ في سلسلة من ثيمات متنوعة داخل مبنى الرواية، لذا فإنَّ ظهور الشبكة العنكبوتية وما تبعها من العوالم السيبرانية فتحَ مساحاتِ وإمكانيات جديدة لكتابة الرواية، بعكسُ ما يقالُ حول الفنون الأخرى بأن مدها آخذ في الإنحسار جراء تصاعد ظاهرة الرقمنة، إذ بدا الواقع الإفتراضي مكوناً أساسياً في كثير من الأعمال الروائية، ويعتمدُ عليها المُؤلفون بوصفه عنصراً تشويقياً أو وسيلة للتنوع الأُسلوبي، ومن الملاحظ أن مُعظم الروايات التي صدرت عقب ما يسمى بالربيع العربي، تبنت وسائل التواصل الإجتماعية قالباً لتمرير الحوارات والرسائل بين شخصياتها، كما يميلُ عدد من الروائيين إلى تضمين أساليب خبرية وصيغة التقارير الصحافية في مؤلفاتهم.

مستويات مُتفاوتة

وما يجبُ ذكره بهذا الصدد هو إستناد الروايات العربية في السنوات الأخيرة إلى بنية المدونة، والتمسك بالتجريب، والنصوص الموازية ما أثار السؤال عن احتمالية تنميط البناء الروائي، من المعلوم بأنَّ مستويات الإبداع تتفاوت لدى الكُتاب الذين راهنوا على بنية المدونة من خلال توظيف الوثائق والمخطوطات والرقائق، وما يتبادرُ إلى الذهن عندما تفتشُ عن الأعمال الناجحة في إختيار هذا اللون السردي هو (فهرست) لسنان أنطوان حيثُ يتابعُ المتلقي خطين للسرد ما كتبه ودد عبدالكريم وهو بائع للكتب بالتوازي مع رواية الأستاذ الجامعي نُمير، وسبق للكاتب المصري أنْ إتبع الأسلوب نفسه في رواية “عزازيل” التي يوهمك مؤلفها بأن ما تقرأه ليس سوى ترجمة لألواح مكتوبة باللغة السريانية، ولجأَ الكاتب والروائي السوري هيثم حسين في روايته “عشبة ضارة في فردوس” إلى كشف نسق العقل المخابراتي عبر تقنية ميتا السرد، حيثُ تستبطنُ الراوية دواخل شخصية المساعد أول عندما تقرأُ محتويات دفتره.

الرواية والفوتوغراف

لا تتوقف المحاولات لنحت صياغات جديدة عند هذا الحد، بل تتوالى عملية تسنين أشكال جديدة في البناء الروائي، ما يجدرُ إبرازه في هذا الإطار هو الإهتمام المُتزايد  بالمستوى البصري لدى الروائيين العرب بالإحالة إلى الصور سواءً أكانت فوتوغرافية أو تشكيلية لسد فجوات الذاكرة، طبعاً فإن علاقة الرواية مع عنصر الصورة تبدأُ من الغلاف. يُحدد أرجون أبادوري دور الصورة أساساً في إمداد الخيال بالقوة وبث الطاقات الإيحائية، ويشار إلى أن أول من دشنَّ إستخدام الصورة ثيمة رئيسية في أعماله الروائية هو الكاتب الفرنسي باتريك موديانو إذ يتخيل المتلقي أحيانا بأنَّ الصورة تحل محل الشخصيات الأساسية في وصفته السردية، وهذا الإجراء تراه بالوضوح في رواية “شارع الحوانيت المُعتمة” و”آحاد أغسطس” إذ أن في العملين تقوم الحبكة على فك ألغاز الصورة، كماهو معروف فإنَّ الصورة تدرج ضمن ممارسات سيميائية تؤولُ باعتبارها وعاءً للمعنى، وتسربَ هذا الأُسلوب إلى تضاعيف الرواية العربية، إذ تعدُ الصورة الفوتوغرافية من الأدوات التي يعولُ عليها الروائي العراقي سعد محمد رحيم في “مقتل بائع الكتب” لإجلاء الغموض حول شخصية البطل.

كذلك برعت الكاتبة السورية مها حسن في مد روايتها “مترو حلب” بمزيد من عناصر التشويق وذلك عندما تثير صورة آمنة شكوك البطلة سارة إذ تتفاجأُ الأخيرة بالتشابه المذهل بينهما عندما كانت الخالة في سنها، بهذا تتواردُ الأسئلة لدى المتلقي حول ما خُفي في علاقة الإثنتين، ولا تُفتحُ مغاليق ما أوحت به الصورة من أسئلة مُلغزة إلا بمتابعة ماسجلته الخالة على الكاسيتات.

واحتفت لينا هويان الحسن بدورها بفن الفوتوغراف في رواية “الذئاب لا تُنسى” إذ تستعيدُ تاريخ الصور العائلية حيث إن معاينة  الساردة لمقتنيات وصور رابضة على جدار البيت تُكمل نواقص ما يترشح من الذاكرة، كما تؤثث جزءاً من برنامجها السردي في “بنت الباشا” بناءً على إيحاءات الصورة.

قبل أن نقفلَ قوس هذا الموضوع لا بُدَّ من الإلتفات إلى تجربة الروائي العراقي خضير فليح الزيدي في تعجين الصورة بالمادة السردية حيث إن مقاربته تأتى ناضجة على هذا المستوى في رواية “الملك في بيجامته” وتمكّن في إيهام المتلقي بأنَّ ما يتابعهُ من المعلومات مستقاة من الصور خصوصاً ما يتعلقُ منها بملابسات مقتل العائلة المالكة في العراق، إذ يعهدُ مؤلف “فاليوم عشرة” دور البطولة في ثلاثة أقسام من روايته الجديدة إلى الفوتوغراف. هذا ما عدا أن عتبة العنوان تعد امتدادا لظلال صورة الملك عشية مقتله.

ما ينبغي قوله إن ما تناوله هذا المقال ليس إلا مدخلاً لمحاور متعالقة بالسرد الروائي قد تتطلب مزيداً من البحث والدراسة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى