الرّيحاني بين الشّرق والغرب

أمين الرّيحاني واحد من كبار أدباء عصر النّهضة العربيّة، ورُكن من أركان حركة التفاعل بين الشّرق والغرب في هذا العصر. وُلِد عام 1876 في الفريكة / المتن الشمالي، القرية التي تتّكِئ على وادٍ قال فيه الرّيحاني يوماً: “وادي الفريكة مهيبٌ وجميلٌ غير أنّ هَيبته أكثرُ مِن جمالِه، وهو عميق ملتوٍ يَنحدِر مِن قرية صغيرة لِيغسِلَ رجليْه في نهر الكَلب”.

تَتلمَذ الرّيحاني تحت الزيتونة على يدَي كاهن كنيسة مار مارون في الفريكة. دخل مدرسة نعّوم مُكرزِل (1863- 1932)، وهو ابن ضيعته، الذي كان قد أسّس مدرسة في الفريكة، فدَرس أمين مبادئ اللّغتَين العربيّة والفرنسيّة، إلى أن أرسله والده سنة 1888 إلى نيويورك، وهو بعدُ في نحو الثانية عشرة مِن عمره، فسافر إليها برفقة عمّه عبدُه ومعلِّمه نعّوم مُكرزِل.

في هذه المدينة الأميركيّة العالميّة دَرس أمين الرّيحاني الإنكليزيّة عاماً كاملاً، وكان يعمل في النهار في محلّ عمِّه وأبيه الذي كان قد لَحق بهم مع عائلته سنة 1889. في الليل كان الفتى يُتابع دراسته. ترك العمل في المحلّ وانضمّ إلى فرقة تمثيل، ما لبثت هذه الفرقة أن أغلقت أبواب مسرحها المتواضع، فدخل أمين كليّة الحقوق ولكنّه لم يُكمِل دراسته. عاد إلى لبنان بعد أن ساءت صحّته، وراح يُدرِّس الإنكليزيّة في مدرسة مار يوسف في قرنة شهوان، ويتعلّم العربيّة في الوقت عينه. مِن خلال مطالعاته في الكتب العربيّة تعرّف إلى أبي العلاء المعرّي، وشدّه كتاب “اللّزوميّات” الذي يتناول فيه أبو العلاء شعراً فلسفته الخاصّة في وجود الله والنفس والخلق والاجتماع. ترجم أمين الرّيحاني سنة 1903 “اللّزوميّات” إلى الإنكليزيّة، فلاقت ترجمته قبولاً واستحساناً قلّ نظيره، وقد أقام نادي “الثريّا” الأدبيّ الأميركيّ في نيويورك حفلة عامرة على شرف أمين الرّيحاني بمناسبة صدور هذا الكتاب، أُلقيت في أثنائها الخطب الرنّانة التي تحمل الإطراء والثّناء، ثمّ دُعِي أمين الرّيحاني إلى منبرٍ خاصّ، وبعد أن ألقى رئيس النادي كلمته في المحتفى به تقدّم من الأمين ووضع على رأسه التّاج. وقد قال رئيس النادي: “إنّ أمين الرّيحاني هو أفصح خطيب دخل دائرتنا”. وانفتحت أمامه أبواب الشهرة على مصراعيها في العالم الجديد، وبخاصّة بعد صدور كتابه “خالد”. وتابع الرّيحاني يكتب الإنكليزيّة بلغة راقية جذّابة. وصار واحداً مِن كبار الكتّاب في أميركا وإنكلترا، وقد أُدرِج اسمه في دليل مشاهير كتّاب أميركا وكندا سنة 1930 -1931، وكذلك في دليل مشاهير الأدباء المطبوع في إنكلترا.

تعرّف الرّيحاني إلى العالم الجديد حيث يسيطر العقل، وتتمتّع الولايات بالحرّيّة والوحدة والديمقراطيّة، تلك التي نادى بها رموزٌ مِن أمثال جورج واشنطن، وأبراهام لنكولن وغيرهما، هو القادم مِن الشرق الذي لم يعرف الحريّة. والرّيحاني في أواخر القرن التاسع عشر رأى بأمّ عينيه هذا البون الشاسع بين عالمَين: عالم الحرّيّة والنور وكهرباء أديسون الذي أسَّسَ في نيويُورْك أَوَّلَ شَرِكَةٍ لِلإنارَةِ بِالْكَهْرَباءِ سَنَةَ 1878، وَقَدْ قَدَّمَ عَرْضاً لإضاءةِ أوّل مصباحٍ مُتَوَهِّجٍ في “مينْلو بارك” في 31 كانون الأَوَّل (ديسمبر) سنة 1879، وَقالَ يَوْمَذاك: سَوْفَ نَجْعَلُ الكهرباءَ رخيصَةً جِدّاً، بحيث إنّ الأغنياءَ وحْدَهُم فقط، سَوْفَ يُمكِنُهم إِشْعال الشُّموع. هذا في نيويورك أديسون حيث كان الرّيحاني في بداياته، بينما وراء المحيطات والبحار عالم الظلمة والظُّلم والاستبداد ومصابيح تُطفِئها رياح السموم في صحراءٍ قاحلة. لقد حزّ هذا في نَفْس الأمين إلى أبعد الحدود، ساعة وقف أمام تمثال الحرّية في نيويورك وخاطبه قائلاً: “متى تحوِّلين وجهك نحو الشرق أيّتها الحريّة…” وصاح بالبواخر وهو ينظر إليها مِن على جسر بْرُوكلين: “خذي، خذي معكِ ولو زجاجة صغيرة مِن هذا الماء المقدَّس ورشّي منها سواحل مصر وسوريا وفلسطين وأرمينيا والأناضول، احمِلي إلى الشرق شيئاً مِن نشاط الغرب، وعودي إلى الغرب بشيء مِن تقاعد الشرق. احملي إلى الهند بالة مِن حكمة الأميركان العمليّة، وعودي إلى نيويورك ببضعة أكياسٍ مِن بذور الفلسفة الهنديّة. اِقذِفي على مصر وسورية بفيضٍ من ثمار العلوم الهندَسيّة، واقفلي إلى هذه البلاد بفيضٍ من المكارم العربيّة… أيّتها البواخر الآيبة حيّي عن جسر بروكلين خرائب تدمر وقلعة بعلبك، واقرأي أهرام مصر سلامَ هذه المعالم الشاهقة المشعشعة بالكهرباء. سيري أيّتها السّفن بسلام وارجعي بسلام”.

نعم، الشرق وطن الرّوح والإيمان والأديان منذ الأزمنة المغرقة في القِدم. والغرب وطن العقل والعلم والنشاط والحداثة والتقدّم… والرّيحاني بين هذا وذاك، ثائر بلا هوادة، مجاهد في سبيل رفع الضّيم عن شرق له في أعماقه مودّة خالصة. قال يُخاطب شعب بلاده في وصيّته الرابعة عشرة: “إنّ أنوار العالم القديم على وشك الانطفاء كلّها. فتيقّظوا وراقبوا المصابيح الجديدة وسيروا في مقدّمة المستنيرين بأنوارها”. وهو الذي تأثّر بالنُّظم الحديثة السائدة في أميركا وأوروبا، ولاسيّما الديمقراطيّة القائمة على أساس الحريّة والعدالة والمساواة، تلك الشعائر التي نادت بها الثورة الفرنسيّة سنة 1789. هذه الثورة بمبادئها الإنسانيّة قد جذبت إليها أمين الرّيحاني فكتب كتابه “موجز تاريخ الثورة الفرنسيّة”، كتبه بالعربيّة ليعرِّف العرب إلى هذه الثورة المثال لكلّ حريّة، كما تَرجم “اللّزوميّات” ليُعرّف العالم الذي يتكلّم الإنكليزيّة بشاعرٍ عربيّ كبير كان “حرباً على الإثم والشرّ، ومُحِبّاً للخير والعدالة والحريّة… قبل ألف سنة من حضارة القرن العشرين”. وكذلك كان كتابه “المحالفة الثلاثيّة في المملكة الحيوانيّة” وهو حوار رمزيّ يدور على ألسنة الحيوانات الذين ساروا على طريق سكّة الحديد ينوؤون تحت أحمالهم راضين أو مرغَمين ولا يريدون الثّورة ضدّ مظالم المعتدي، هؤلاء يُمثّلون الأفكار البائدة، والعادات والتقاليد البالية القديمة الموروثة… “وإذ صفّر قطار العِلم القائد عربات البخار الكهربائيّة والاختراعات ومرّ عليهم فسحقهم سحقاً، وقد تطايرت رؤوسهم وبقايا أجسادهم في الجوّ، وتشتّت أعضاؤهم المُنقطعة على طريق التمدّن الحديث”.

الرّيحاني في بلاد العرب من أجل الوحدة والقوميّة

كان الرّيحاني صاحب رسالة إنسانيّة تخصّ العالم كلّه، وبخاصّة شعبه العربيّ. عمل الرّيحاني من أجل الوحدة العربيّة فقام برحلاته المشهورة إلى بلاد العرب، وزار ملوكها وتحدّث معهم طويلاً في قضيّة الوحدة العربيّة. أنتجت تلك الرحلات مؤلّفات عدّة منها: “ملوك العرب” عام 1924، “تاريخ نجد” وملحقاته عام 1927، “فيصل الأوّل” عام 1934، “قلب العراق” عام 1935، “قلب لبنان” عام 1947. يقول ألبرت الرّيحاني عن بدايات الفكر القوميّ عند أمين: “في الوقت الذي تركَّز فيه الاهتمام في نيويورك حول أدب عربي حديث، كان الرّيحاني قد بدأ يوسِّع اهتماماته لتشمل الإنسان العربي الحديث، فكراً وأدباً واجتماعاً وسياسة. فمرحلة التجديد الأدبيّ التي أعلنها دستورُ الرابطة، سبَق وأعلنها أمين منذ عقود ونيّف في “ريحانيّاته” و “محالفته الثلاثيّة” وفي “المكاري والكاهن” وشعره المنثور وسواها من مؤلّفاته الباكرة. ففي الفترة التي ظهرت فيها الرابطة كان حلم أمين في اكتشاف الإنسان العربي في الجزيرة المغلقة قد ظهر هو أيضاً فظهرت بداية الاتّجاهات المُتباينة بين أمين والرابطة، لا من حيث مبدأ التجديد، بل من حيث الأبعاد الإنسانيّة والقوميّة لهذا التجديد”.

يُذكر أنّه عندما وصل الرّيحاني إلى نجد التقى جلالة الملك عبد العزيز آل سعود في صحراء الهفوف لعقد مؤتمر العقير، فطلب جلالة الملك من الرّيحاني أن يكون مستشاره لعقد معاهدة بينه وبين الوفد العراقي برئاسة السّير برسي كوكس، المندوب السامي البريطاني في العراق، وذلك من أجل تحديد الحدود بين نجد والعراق، فقام الرّيحاني بالمهمّة خير قيامٍ وأسهم في وضع مشروع المعاهدة باللّغتين العربيّة والإنكليزيّة.

كُلِّف الرّيحاني من الملك حسين، شريف مكّة، أن يتوسَّط بين جلالته وجلالة الملك عبد العزيز آل سعود في الحرب الحجازيّة النجديّة، فوافق الملكان على تكليف الرّيحاني، وقد لاقت مقترحاته واتّصالاته قبولاً من الطّرفَين وكاد الصُّلح يتحقّق لولا مداخلات سياسية مُعارضة.

عَهد إليه الملك عبد العزيز آل سعود وأمير الكويت الشيخ أحمد آل جابر الصباح مُخابرة شركات النّفط لمصلحة السعودية والكويت، فاتّصل الرّيحاني بهذه الشركات، من إنكليزيّة وأميركيّة، والتقى سنة 1922 بالميجر فرانك هولمز رئيس شركة نفط النقابة المحدودة، ويُذكر أنّ هولمز عاد وزار الرّيحاني سنة 1924 في الفريكة للغاية نفسها. كان الرّيحاني يعتبر أنّ إسهامه هذا قد يُجيَّر في سبيل تحقيق الوحدة العربيّة. وفي عام 1927 قَدِم إلى الفريكة لزيارة أمين الرّيحاني أمراء البحرين، أحمد بن الشيخ محمّد آل خليفة، ومحمّد بن الشيخ عبدالله آل خليفة، وعلي بن الشيخ محمد آل خليفة، للبحث معه في قضايا النّفط في البحرين.

قال الرّيحاني في وصيّته الثامنة التي كتبها عام 1931: “إنّ الوحدة العربيّة المؤسَّسة على القوميّة لا على الدِّين هي وحدة مُقدّسة فأوصيكم بها. واعلموا أنّ لا خلاصَ للأقليّات مِن ربقة الأجانب، أو في الأقلّ مِن التدخل الأجنبيّ، إلاّ باتّحادهم مع العرب، بل بامتزاجهم بالأكثريّات امتزاجاً عقليّاً أدبيّاً روحيّاً، فتُصبح البلاد ولا أكثريّات ولا أقليّات. واعلموا كذلك أنْ لا مستقبل مجيداً للعرب ولا وحدة عزيزة شاملة بغير الحُكم المدنيّ الديمقراطيّ القائم على العدل والمساواة بالحقوق والواجبات”.

وأردف الرّيحاني: “واعلموا أخيراً وتأكّدوا أنّ في الدّولة العربيّة الكبرى ستضمحلّ العصبيّات الدينيّة والطائفيّة كلّها، أو ستنحصر في دوائرها الخاصّة بها ولا تتعدّاها. وسيقوم مقامها في الوطن عصبيّة الجنس واللّغة والثقافة، وقد ارتبطت كلّها بالمثل الإنسانيّ الأعلى، وبالمصلحة المشترَكة المتبادلة بين الأهالي جميعاً على السّواء”.

*كاتب وأكاديمي لبناني

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى