السروري يؤكد في كتابه أن الفقه الحالي لا يصلح للواقع ويزداد انفصالا عن الحياة

يتناول هذا الكتاب “السلفية المعاصرة.. قراءة الذهنية المشتركة في الإسلام والمسيحية” والصادر عن دار العين للباحث محمد عبدالفتاح السروري، قضية الأفكار السلفية الراسخة في ذهنية الفرد في المجتمعات العربية والتي تقف حائلا وصدا منيعا ضد أي تجديد أو اجتهاد ينير الأمة ويخرج بها إلى رؤية لحقائق الواقع وما يتطلبه المستقبل، فيناقش قضايا مثل التعصب ومفارقة الفكر للواقع والإسلام والحداثة والحنين إلى التخلف، محاولا سبر أغوار ما وصل إليه حال الأمة نتيجة طغيان الفقه السلفي وكهنوت القائمين عليه.

ويؤكد السروري أن المعضلة الحقيقية التي تواجه الاجتهاديين المجددين هي “أزمة إثبات حسن النيات، فهناك حالة من حالات التربص الشديدة عند الراديكاليين لكل من يحاول طرح فكر يفهم منه ضمنا أنه مختلف عما وجدنا عليه آباءنا، مختلفا عما ألفيناه واعتادته عقولنا وأسماعنا”.

ويضيف أنه عندما يتحدث عن الكهنوتية عند المسلمين فإنه يقصد عموم المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وفرقهم، و”إذ كان الكهنوت عند السنة يتجسد في الشروح والفتاوى البشرية، فإنه عند الصوفية يتمثل في الأولياء والأقطاب والكرامات التي لا مجال للخوض فيها أو مناقشتها. ويتجلى الكهنوت عند الشيعة في شخص الأئمة المعصومين وانتظار القادم الآت، والذي سوف يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا”.

ويرى أن الكهنوتية أو الحالة الكهنوتية تتجلى لدى الفقهاء ـ المفكرين المسلمين أشد ما تتجلى فيما “يخلص مسألة شديدة الحساسية وهي السنة النبوية، فهي في رأيهم لها من المكانة ما يوازي ويوازن النص الإلهي نفسه، لكن المشكلة أن السنة النبوية نفسها ليست محل إجماع بين جميع المسلمين بل ليس لها تعريف واحد محدد، بل إن لها تعريفات شتى، صحيح أنها مصنفة ولكن غير متفق عليها، فهناك سنة عادات وسنة عبادات، وهناك سنة واجبة وأخرى مستحبة وهكذا. ويثور الخلاف دائما فيما هو واجب الاتباع من السنة وما هو مستحب”.

ويؤكد السروري أن الفكر الكهنوتي قابع في الضمير الديني لدى عامة المسلمين، أيا كان توجههم المذهبي، فأنصار السنة المحمدية لا يطيقون للشيعة ولا للصوفية رأيا ولا حجة، والصوفية يرون أن المحدثين باسم السنة احتكروا حياة النبي وأقواله لأنفسهم، هم وحدهم ينطقون بصدق ما قاله، وهم وحدهم الذين يتبعون صحيح أفعاله، والشيعة يرون أنهم على الحق وأنهم أولى بالنبي وآل بيته، ألا يعد مسند البخاري كهنوتا لا تجوز مناقشة ما جاء فيه ولا في غيره من كتب الأحاديث؟ أليست كرامات الأولياء والأقطاب كهنوتا لدى أصحابها لا يمكن التشكيك فيها؟ أليست عصمة الأئمة كهنوتا لا مجال لمناقشته أو الخوض فيه؟ أليس لكل مذهب كهنوته الخاص؟”.

ويشير إذا أجملنا المذاهب أصبحنا وتحدثنا عن المسلمين ـ كمجموع ـ نجد أنفسنا أمام كهنوت عظيم اسمه “الاتباع” كل مذهب بما تبع رهين، إذا حاول الاجتهاديون المجددون خلخلة هذا الكهنوت صاروا من أهل الابتداع الذين تندرج أفكارهم وأقوالهم تحت بند المحدثات والمحدثات بدع والبدع ضلالات والضلالات في النار، أي أن الاجتهاديين تسلسلا وبناء على ما سبق من أهل النار، فعن أي اجتهاد وتجديد نتحدث؟

ويخلص السروي إلى أن ينابيع الفكر المجددة جفت، وأسنت مياه الفقه، وترسخت رواسخ وثبتت ثوابت وأصبح الاجتهاديون بين المطرقة والسندان، ومطرقة السلف الذي لن تتغير أقواله وأفعاله وتراثه، وبين سندان الخلف الذي يتقبل كل ما ورثه عن ذلك السلف في غيبوبة شاملة عن الواقع وعن المستقبل. الاجتهاديون الذين ما أن يبدأوا التجديد حتى تنزل عليهم معاول الهدم، رغم عشرات القضايا المحدثة التي تحتاج لفقه جديد بالكامل، فقه الواقع الحاضر المعاش وليس فقه الماضي الذي ولي.

ويتساءل السروري: ما الأسباب التي دعت إلى هيمنة الفقه السلفي على العقول والقلوب؟ ما العوامل التي أدت إلى “سلفنة” العقل الجمعي إن جاز التعبير؟ ويقول “أكاد أجزم أن أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتنا نصل إلى هذه الدرجة من الانحدار الفكري والثقافي هي تلك الحالة المريبة من الصمت تجاه هذا الخطاب الأحادي الذي يبث في عقول وقلوب العامة ليلا ونهارا، ويرسل إليها أفكارا تجعله ينعزل عن المعطيات التي تأخذ به إلى الاندماج في خضم الحياة المعاصرة، وأكاد أجزم أن هذا الصمت بدوره هو الذي صنع هذا الفقه، فلولا الصمت ما كان هذا الخطاب ليتجرأ علينا كل هذه الجرأة فيما يطرحه من أطروحات سلفية ماضوية بعيدة كل البعد عن واقع الحياة الآني، أو الرغبة في رسم ملامح مستقبل مأمول.

لقد صنع الصمت فقها. فلولا الصمت لكان هذا الخطاب السلفي الآن يقاوم ولا يهاجم كما هو الحال الآن. إن الصمت قد صنع من هذا الفقه جيشا هجوميا على كل من يخالفه لا جيشا دفاعيا ضد كل من يناهضه”.

ويوضح على أن قضية الاجتهاد هي من أشد قضايا الفكر الإسلامي تعقيدا، لأنها ببساطة تعد القضية الكاشفة لنوعية العقليات المسيطرة على المشتغلين بالفكر الإسلامي وهم في غالبيتهم يقاومون التجديد مقاومة عنيدة. وهم لا يخجلون من طرح شعارهم القائل “تقديم النقل على العقل” أو شعار آخر ينتمي لنفس المدرسة النقلية “كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف” وإن لم يطرحوا قولا طرحوه فعلا، وذلك بالتصدي لكل من يحاول التجديد. والشاهد للعيان أن الاجتهاد يعد الآن في العالم الإسلامي فعلا منفيا نفيا تاما، بل إن المجتهد الآن هو محل اتهام إلى أن يثبت العكس وكل ما يحدث هو الدوران حول نقطة ولكن بمسافات متساوية لا تخرج من فلك دائرة هي في حد ذاتها دائرة السلف الصالح، وما تركوه لنا من أفكار ومقولات وشروح أصبحت ثوابت ومبادئ.

ويشدد السروري على أن المسلمين اليوم يحتاجون إلى فقه مستنير يقرأ الواقع قراءة صحيحة كي يطرح حلولا واقعية لمشاكل واقعية، “فقه مستنير يرسخ لفكر الواقع وأنه أينما وجدت مصالح العباد فثم شرع الله، فقه يعيد المسلمين إلى دورة الحياة الحديثة، والتي كان يجب أن يكونوا هم أول مؤسسيها، أما الفقه الحالي فهو في مجمله لا يصلح للواقع الحالي وهو يزداد انفصالا عن الحياة يوما بعد يوم ويزيد المسلمين التابعيين له انفصالا عن الدنيا، هذا غير أن هذا الفقه يرسخ لديهم شعورا بالغربة عن الحياة وألما شديدا نظرا لما قد يعانون منه من إحساس مؤلم نابع من هذا التناقض بين ما يؤمنون به في احتياجاتهم الحياتية والأساسية، وما يجري فيها، وحجتنا في ذلك أن الفقه الحالي هو من صنع البشر، فلماذا إذن لا يؤسس البشر فقها آخر كما أسس السلف فقههم كي يواكبوا مستجدات حياتهم والتي لم تكن موجودة على أيام النبي وتابعيه الأوائل؟ ومن لهذا المهمة؟ ومتى يبدأون؟ إذا كانت هناك من الأساس نية البدء”.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى