السياسة الخارجية الروسية كما يراها لافروف

 

احتفلت الدبلوماسية الروسية في شهر آذار/ مارس الماضي، بعيد المولد السبعين لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، وقيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمنحه لقب “بطل العمل” لما قدمه من خدمات للدولة الروسية.

وتقديراً لدور الوزير لافروف في رفع مستوى السياسة الخارجية لروسيا ودورها في العالم ككل، والعالم العربي خصوصاً، قامت مجموعة من الدبلوماسيين العراقيين بترجمة كتاب لافروف “نحن شعب مهذب، تأملات في السياسة الخارجية الروسية” إلى العربية وقد قام بإصدار ونشره دار الرافدين في بيروت.

وقد كان صاحب فكرة ترجمة الكتاب هو سفير العراق حالياً في عمان حيدر العذاري، عندما كان سفيراً لبلاده في موسكو (2016 – 2019) لما لمؤلفه ومضمونه أهمية كبيرة في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية.

يقول العذاري حول هذا العمل:  كتاب سيرغي لافروف هو أول كتاب يتوفر باللغة العربية عن شخصية دبلوماسية مرموقة كان لي شرف العمل معها لمدة ثلاث سنوات عندما عملت سفيراً مفوضاً وفوق العادة لجمهورية العراق لدى روسيا الاتحادية.

ترجم الكتاب محمد خميس وعمل على تقديم الكتاب وتحريره القائم بالأعمال العراقي في إسبانيا ياسر عبد الحسين.

صحيح أن لافروف ينتمي إلى حزب “روسيا الموحدة” الذي يتزعمه بوتين، إلا أنه نجح في  تقديم نفسه دبلوماسياً محترفاً، حيث يصفه خصومه والمعجبون به بأنه يتسم بالمهنية، وأنه مفاوض وصاحب لسان لاذع، وخلال نحو عقد من عمله مندوباً لموسكو في الأمم المتحدة اكتسب شهرة بإصراره على موقفه.

ولا شك بأن الفصل الموسع الذي سرد فيه الدبلوماسي في السفارة العراقية في مدريد ياسر عبد الحسين، حياة وزير الخارجية ومبادئ السياسة الخارجية لا يقل قيمة عن محتوى الكتاب. فقد نجح عبد الحسين – كما عهدناه بثقافته الواسعة والعميقة – في استكشاف السياسة الروسية ومشروع الرئيس بوتين.

يبدأ عبد الحسين مقدمته بما قاله الشاعر الروسي فيودور تيوتشيف: “لا تُفهم روسيا بالعقل ولا تُقاس بالمقاييس، إذ لديها قوام خاص، ليس لك إلا أن تؤمن بروسيا”. ويروي ما قاله له ديبلوماسي روسي التقى به: “إن القول بأنك تعرف كيف تُصنع السياسة الخارجية في روسيا.. هو نكتة بحد ذاته”.

يؤكد عبد الحسين أن السياسة الخارجية الروسية بشكل عام تمثل عملية معقدة داخل صندوق أسود من الصعب فك شيفراتها، وإن بدت معالمها الأساس تظهر في سلوك بوتين نفسه أو الكرملين كمؤسسة لصنع الساسة الخارجية الروسية.

ويؤكد أن السياسة الخارجية في روسيا وريثة تراث ضخم، ولا تزال تحاكي التقاليد العريقة. فالمدرسة السوفياتية – الروسية اقترنت بالزواج بين جيوبوليتيكا القوة والمدرسة النووية العظمى، والسجال الماكندري – الأوراسي على مستوى الجغرافيا السياسية.

ويكمل عبد الحسين مطالعته بقوله: لا يفارقك هذا التصور وأنت تنظر إلى الساحة الحمراء أمام الكرملين في قلب موسكو، ولا يمكن ان تنفك الصورة الذهنية لهذا التزواج بين الموروثين ببعديه الجغرافي والسياسي الذي تم تطويره بعد الثورة البلشفية.

إن محاولة استكشاف طبيعة السياسة الخارجية الروسية هي بمثابة – تحد كبير – في عدة اتجاهات وخصوصاً من ناحية فلسفة القيادة. وكما يقول الأديب الروسي الشهير  دوستويفسكي: “إن الشعب والقيصر يجب أن يكونا صفاً واحداً، بالنسبة للشعب فالقيصر ليس سلطة خارجية، أو أنه سلطة لبعض الناس، بل هو قوة وسلطة للجميع، ولتوحيد جميع الناس في الدولة، وهذه هي الثقافة الروسية وهي ثقافة قومية وطنية متعلقة بتاريخ هوية القيادة في روسيا القديمة.

الفرق واضح بين السياسة الخارجية في عهد الرئيس بوتين التي تختلف جذرياً عن سلفه بوريس يلتسين. فالدراسات الغربية لا تزال غير مدركة لطبيعة هوية المجتمع الروسي وإن اعتمدت على الإستراتيجية التي يعلنها صاحب القرار الروسي، التي لا يزال المؤشر الأول فيها يصب باتجاه أهداف روسيا الإستراتيجية في استعادة مكانتها كدولة عالمية عظمى ومؤثرة.

ولا أبالغ إن قلت أن كتاب: “نحن شعب مهذب، تأملات في السياسة الخارجية الروسية” يشكل المرجع الأول للتعمق في معرقة الدبلوماسية الروسية التي يشرف عليها بوتين، وإلا ما معنى أن يعلن لافروف فيه: “إننا الاَن ونيابة عن الرئيس بوتين نبلغ عن نسخة محدثة من مفهوم السياسة الخارجية للإتحاد الروسي، مع مراعاة التطورات الأخيرة”.

يبيّن لافروف في كتابه أنه “مع مجيئ الرئيس بوتين للحكم أدركوا – أي أميركا وأوروبا – بأن روسيا تريد أن تكون مستقلة في الشؤون الخارجية وكيف أنها تبني حياتها الداخلية وتدير سياستها الإقتصادية، وبدأوا النظر في الخطوات التي يجب اتخاذها من أجل ردعنا”.

ويعيش الدب الروسي على عتبات تحول كبير على مستوى العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، لكنه قرر الإحتفاظ بالإرث القيصري والسوفياتي وينطلق في النظام العالمي عبر اَليات تتعامل مع المتغيرات برؤى خاصة تحفظ تطلعات قيصرها الجديد بوتين، الذي يحتاج إلى إطارات واسعة من أجل فهم مقتربات فكره على المستوى السياسة الخارجية وطبيعة تأثيره الشخصي في الإنبعاث الروسي الراهن.

لقد شكّل وصول فلاديمير بوتين إلى رئاسة روسيا، انقلاباً على كل ما اعتادته الولايات المتحدة الأميركية من سيطرة تامة على روسيا من عهد الرئيس السابق يلتسين، وبعد انهيار الإتحاد السوفياتي.

هناك ثلاثة مفاصل أدركت روسيا بقيادة بوتين من خلالها، أن الهيمنة الأميركية على العالم في تراجع مستمر. وعليه، فمن الواجب أن تغتنم تلك الفرصة لاستعادة النفوذ الروسي في العالم.

الأول: بعد 11 أيلول – سبتمبر 2001، أصبحت الولايات المتحدة التي استبدت بها فكرة الإرهاب أكثر تشوّشاً، فغابت عنها رؤية مبادئها الاستراتيجية الطويلة المدى بالمرة. وكبديلٍ لذلك، خلقت هدفاً استراتيجياً جديداً، لكنه بعيد، وهو القضاء على تهديد الإرهاب. وكان المصدر الرئيسي لهذا التهديد هو تنظيم القاعدة.

وخلق التزام القوى الأميركية غير المتوازن بمسرح العمليات الذي يمتد من البحر المتوسط إلى جبال همالايا، فرصة سانحة لجهاز الأمن الروسي كي يستعيد نفوذه.

وبدأ الروس في عهد بوتين فرض أنفسهم من جديد حتى قبل الحرب مع جورجيا وسرعوا عملية إعادة ظهورهم منذ ذلك الحين. ونتيجة لذلك تواجه الولايات المتحدة الآن قوتين إقليميتين كبيرتين هي روسيا وإيران ولهما أجندتها المختلفة التي من بينها السعي لأن يكون لهما نفوذ في مناطق مختلفة من العالم.

الثاني: شكل انتصار حزب الله على الاحتلال الإسرائيلي في لبنان والقضاء على المقاومة، تأكيداً على الخيار الذي اتخذه بوتين بأن نفوذ الولايات المتحدة في تراجع مستمر. وإلا لماذا شن بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، هجوماً شديد اللهجة على الولايات المتحدة بسبب سياسة الهيمنة، التي تنتهجها، وانتقد الأحادية القطبية في إدارة العالم، ودورها في اندلاع نزاعات مسلحة حصدت عدداً كبيراً من الضحايا؛ مؤكداً أن “محاولة حل المشكلات بطريقة أحادية الجانب أدت إلى حصول مآس إنسانية جمة”.

الثالث: دخول القوات الروسية إلى سوريا عام 2015 بطلب وتنسيق مع الرئيس السوري بشار الأسد. وقد سمى بعض الباحثين ذلك، العودة الثانية لروسيا إلى الشرق الاوسط، بعدما كانت دخلت لأول مرة عسكرياُ أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كداعم لمصر وللرئيس المصري جمال عبد الناصر.

يعتقد لافروف أن ما يحدث الاَن هو: “شيطنة لروسيا كما شيطنت الإدارة الأميركية الحالية، إيران في السنوات الأخيرة وصنفتها بكونها المشكلة الرئيسية لهذه المنطقة ومناطق أخرى من العالم”. وتتبع الولايات المتحدة مع روسيا سياسة العقوبات كما تتبعها مع إيران، وإن كانت بدرجات أقل من الأخيرة.

وعن الفكرة المتمثلة “بالاستثنائية الأميركية” وهي فكرة يشترك بها كل من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء في أميركا، يقول لافروف: لقد قلنا أكثر من مرة أن محاولات الولايات المتحدة تقديم نفسها كحاكم على مصير البشرية جمعاء، هي محاولات سبقتها محاولات مشابهة في التاريخ ولم تؤدِّ إلى أي شيء جيد. لذلك، فإننا نؤكد موقفنا المتمثل بأن أي عمليات سياسية داخلية في أي بلد، هي شأن داخلي، بما في ذلك في الولايات المتحدة.

الكتاب هو مجموعة من المقالات والخطابات والمقابلات لشخصية رسمية هو وزير الخارجية الروسي ولكن في الوقت نفسه إن كل صفحة من صفحاته تنقل الموقف الشخصي لرجل إستثنائي.

تقول يلينا بونوماريفا، أستاذة العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، أن ميزة كتاب “نحن شعب مهذب، تأملات في السياسة الخارجية الروسية” قد حددت الحاجة إليه على حد سواء من جانب الدبلوماسيين المحترفين والمتخصين بالشؤون الدولية، وكذلك أوسع دائرة من القراء المتأهبين لفهم جاد لأهم القضايا الدولية.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى