الصفحات الزرقاء صارت صفراء

الفيسبوك، وبالصورة التي عليها في العالم العربي من ناحية كيفية الاستخدام، يتحمل المسؤولية كاملة في هذا الانحدار الذي لحق بالثقافة العربية، وجعلها تزداد ضحالة وتخلفا.

السبب يبدو واضحا وجليا لمجرد إلقاء نظرة فاحصة لعموم ما ينشر على صفحات الفيسبوك بالعالم العربي، وهو أن جل المستخدمين ينظرون إلى الفيسبوك كمنصة للحوار وإبداء الرأي وكأنه منبر تخصصي، في حين أن الفيسبوك هو فضاء للتواصل الاجتماعي لا أكثر ولا أقل. ولم يكن مؤسس هذا الموقع الاجتماعي يرنو إلى جعله بديلا لوسائل وقنوات الحوار الثقافي، لكن غالبية العرب حولته ـ وبالغصب ـ إلى وسيلة إعلام وحامل للبيانات والبلاغات والخطابات فوقع هؤلاء في شراك ما أرادوا الذهاب إليه حين أرادوا مثل هذه الحذلقة.

يرى عبد العزيز متولي، أستاذ النقد الأدبي بجامعة القاهرة، أن تأثير الفيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي امتدّ إلى جميع مجالات الحياة، وقد شمل هذا التأثير الجانب الثقافي والإبداعي، والذي لحق به أضرار بانتشار تلك المواقع التي تعتمد على ثقافة العامة، وليس النخبة والمفكرين، وبالتالي فإن قيمة الفكر والكلمة ودلالاتها تراجعت واختلفت كثيراً في هذا العالم الافتراضي.

ويؤكد أن الفيسبوك من أكثر التهديدات خطورة على الهوية الثقافية والفكرية للشباب العربي، حيث أهدر قيمة الفكر والإبداع، وغيّر قيمة الكلمة ودلالاتها، كذلك حقوق المبدع والمفكر المعنوية والمادية، كما نال من القراءة والكتابة، وإن تلك المواقع أصبح لها لون جديد من الثقافة ولغة خاصة بها تمثّل تمرداً على النظام الاجتماعي والثقافي والفكري.

أما فؤاد السعيد، الباحث بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة فيقول: اعتماد شبكات التواصل الاجتماعي على الثقافة العامة ونشرها دون وجود رقابة عليها، أثّر سلباً على الثقافة والفكر والإبداع الذين جاءوا في ذيل اهتمامات تلك المواقع بل وربما يحظون بقدر من الإهمال والتهكم، في ضوء تجاهل تام لثقافة النخبة التي من المفترض أن تكون الموجه والضابط للعامة وخطورة هذا كون أن غياب دور النخب وانتشار الثقافة الركيكة يقود إلى الفوضى الفكرية ومن ثم الانهيار الثقافي.

ويوضح السعيد أن الفيسبوك له صلة وعلاقة قوية باللغة، التي ترتبط بشكل مباشر بالفكر والثقافة والأدب، فبانحدار اللغة ينحدر الفكر والأدب والإبداع والعكس صحيح، وبالنظر إلى طبيعة اللغة المستخدمة في الحوار والمشاركة على شبكات التواصل، سيتضح حجم التأثير السلبي لتلك المواقع على مفردات اللغة ومن ثم الإبداع والثقافة، وأن مستوى الأداء اللغوي ضعيف مما يشكّل خطورة على قوة اللغة وحيويتها، ومن تدني المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت حيث لا تتجاوز مساهمة العرب 3 بالمائة مما ينتجه العالم، هذا بجانب أن أكثر من 50 بالمئة من سكان العالم العربي لا يتقنون اللغة العربية بشكل جيد، مما يوجد الإشكاليات التي تحول دون الاندماج التام للغة العربية بالعصر الرقمي.

الفيسبوك، وباعتباره وسيلة التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية والأقرب إلى حالة الكسل والتراخي، يستطيع أن يحتله ويسيطر عليه ذوو الثقافة المحدودة ويأخذونه نحو مآربهم في أي وقت.

ولأن العملة المزورة تطرد العملة الصحيحة، انفرد العامة والدهماء في العالم العربي بهذا الموقع، وأصبح بعضهم ينشر بمعدل ” بوست واحد في دقيقة واحدة” ويحصد أطنان ” اللاّيكات” التي تزيد من نجوميته وتزرع فيه نوعا من الغرور المرضي.. وهكذا تتضخم الحالة لدى أمثاله الذين يشكلون الأغلبية الفاعلة والمؤثرة في هذا الفضاء الذي لم يعد افتراضيا بل واقعيا وحقيقيا يؤثر ويتأثر داخل المجتمعات العربية التي أدمنت ثقافة الاستهلاك والاستسهال.

هناك نوع من السكوت المتفق عليه من قبل المجموعة الافتراضية على الفيسبوك، وهو أن يخطئ الناشر الافتراضي فلا يحاسبه على خطئه أحد، ويتقصد الضحالة والإسفاف ولا يتوجه بالنقد إليه أحد.. ويحصل كل ذلك من أجل أن يسكت الكل على أخطاء الكل.

يمكن التحدث في هذا الصدد عن نوع من المؤامرة الجماعية الافتراضية، ولا يكلف الواحد نفسه عندئذ مشقة تصحيح خطئه أو البحث عن مرجع موثوق طالما أنه لم يتعرض إلى أي انتقاد بل بالعكس، سوف يحصد علامات الإعجاب التي صارت عند جمهور الفيسبوك نوعا من الأسهم أو الوحدات التي يمكن إدخالها سوق ” التداول الاجتماعي على الفيسبوك”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى