العصا والجزرة تتبادلان الأدوار.. ولا شيء يتغير

 

منذ أيام قليلة، ظهر الكاتب والصحافي التونسي توفيق بن بريك، رفقة رئيس حزب “قلب تونس” نبيل القروي، خلال إيداع هذا الأخير لملف ترشحه للانتخابات الرئاسية في مقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وراجت صورة هذا المناضل اليساري الذي عُرف بمعارضته الشرسة لنظام بن علي، على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يرافق القروي، ضمن موكب يحمل الكثير من الرسائل والدلالات حول علاقة المثقف بالسياسي الطامح للسلطة ـ وليس القابض عليها ـ، خصوصا في مناخ ديمقراطي ناشئ، لم يعد فيه المثقف مكرها، ولا مجبرا على المسايرة، وانتهاج التقية السياسية.

مثقفون وفنانون آخرون، وكثيرون في تونس، شملتهم حالة الاصطفاف مع هذا السياسي أو ذاك، ودون أن يكون ” السيف مسلطا على رقابهم” بل هم ” أحرار ” اليوم، أكثر من أي وقت مضى.. فهل اختفت العصا وبقيت الجزرة؟ أم أن المسألة تتعدّى هذه المتلازمة التقليدية في اتجاه آخر، يخص نوعا من لعبة شد الحبل بين المثقف والسياسي، ومن يا ترى، يفوز بالآخر، ويجره إلى مواقعه لتعزيز رأيه وخدمة مشروعه.

هذا عن تونس التي يفخر المدافعون عن ربيعها، بأنها تظل استثناءا إقليميا، ويراها المغالون بأنها ” شبه جزيرة ديمقراطية” في دول ما بات يُعرف بالربيع العربي، أما عن مصر، مركز الثقل العربي، ومنارته التاريخية في التحولات السياسية والثقافية الكبرى، فالأمر يبدو غاية في الحساسية والتعقيد، ذلك أن التحديات التي تواجه المركز ليست، حتما، في حجم تلك التحديات التي تواجه الأطراف.

يعلم إعلامي ومثقف مثل توفيق بن بريك، وغيره في تونس، بأنه، وبالتأكيد، ليس ” محمد حسنين هيكل” وأن السياسي الذي يسانده ليس ” جمال عبد الناصر”، وأن المرحلة الحالية ليست كتلك التي شملت تحديات إقليمية وعالمية كبرى كما هو الشأن في خمسينات وستينات القرن الماضي.

لماذا نضخّم هذه المقاربة على أنفسنا، رغم أوجه الشبه التاريخية بين تونس ومصر، والتي أشار إليها واعترف بها مفكرون وكتاب ليبراليون على شاكلة طه حسين وغالي شكري وأنيس منصور، وحتى نجيب محفوظ، وغيرهم، في حقل حديثهم عن ” مشروع نهضة”، ولا نعترف بأن الانتكاسات التي تصيب المثقف والسياسي، على حد سواء، في مصر، يمكن أن تصيب أقرانه في بلد صغير مثل تونس.

المثقف ـ رغم ندرته ـ كان شريكا للسياسي في هذين البلدين العربيين، ومؤتمنا على مشروع نهضوي تطويري منذ الخديوي إسماعيل في مصر، ومنصف باي، في تونس، لكن مقولات مثل  ” دولة الاستقلال” و” السيادة الوطنية” و”مواجهة العدو” قد أفسدت العلاقة بين الثقافة والسياسة لصالح أبهة السلطة واستقطاباتها المتشابكة في الدولة الحديثة.

لم نعد نشهد مثقفا يستشرس في سبيل الدفاع عن مشروع وطني يقوده سياسيون، ولم نعد نرى سياسيا يقرن خطابه بمشروع ثقافي بل آل الأمر لسلطة تجنّد كل من ” تخوّل له النفس بالكتابة” في خدمة مآرب الحكم والبقاء على رأس الدولة.

تشوهت العلاقة بين المثقف والسياسي إلى حد المغازلة الرخيصة أو الجفاء المطلق، وأصبحت لغة التدجين أو الاحتواء،هي السائدة، بسبب خلل أصاب الطرفين على حد سواء.

مهلا.. لا ينبغي للواحد أن لا يعترف بأن الثقافة هي شكل من أشكال طلب السلطة والنفوذ، وإلا فما تفسيرنا لمسألة المرجعية العقائدية، والمنطلقات النظرية التي يشرف عليها “مثقفون”، ويطالبون سياسيين في دائرة السلطة التنفيذية بعدم الحياد عنها داخل الأنظمة الشمولية؟

معظم المثقفين العرب مازالوا يتعاملون مع أفكارهم على أنها عقائد مقدسة، ويبجلونها كشعارات طوباوية، وصايا وألواح أيديولوجية على الحكام مراعاتها.

لا يعلم غالبية من المثقفين العرب أن تحويل الأفكار الخصبة إلى واقع عملي يحتاج إلى عقول سياسية تنتهي بالفكرة إلى حلول ناجعة، ذلك أن بعضهم من عبدة الأيديولوجيا والطوباوية، والممارسين لنوع من ” الاستمناء الثقافي” البعيد عن إمكانيات الواقع المتاح، بالإضافة إلى جهلهم بحقيقة ما تعيشه جماهيرهم وتحلم به بعيدا عن سرير السلطة.

وبالعودة إلى النموذج الذي انطلقنا منه حول المثقف التونسي توفيق بن بريك، و”مرشحه للرئاسة” نبيل القروي، من قال لنا أنّ الأخير يُؤتمر بما يقوله الأول ويمليه عليه؟ وذلك ضمن سلطة المثقف المحنك على السياسي الغر.. ألم يعرف التاريخ مثقفين صنعوا سياسيين مثلما تُصنع عرائس الطين وأصنام لآلهة من حلوى.

لعبة التوريط متبادلة بين المثقف والسياسي، ولا أحد من هذين الاثنين في حل من الثاني، ذلك أن المصلحة سيدة الموقف والحسم، فلا أحد من هذين القطبين بريء من هذه المجازفة، بدليل أن الجماهير، وعند خلع كل حاكم، تلعن البطانة والمستشارين قبل ولاّة الأمر والمتنفذين.

الأمر يختلف في الغرب الأوروبي عن هذا التطاول غير محمود العواقب بين المثقف والسياسي، فالكل هناك يعرف حجمه، قيمته ودوره دون طمع أو استقواء، فالمثقف جاك لونغ، في فرنسا مثلا، رضي بأن يكون وزير ثقافة، ويشتغل على مشروعه، دون أن يطمح للرئاسة، أما الرئيس فرانسوا ميتران، فمضى في طموحه السياسي مضحّيا بقدراته الهائلة كمثقف لا يشق له غبار.

الحقيقة أن العالم العربي لم يشهد ما شهدته أوروبا من تحولات اجتماعية وفكرية رافقها تغير في تحديد مفاهيم المثقف. وينبغي أن نعترف بأنه لم تحدث لدينا  ثورات بورجوازية تحررية على الإقطاع والسلطة الحاكمة باسم الدين، ولا أيضا، ثورات صناعية وعلمية، ولم يشهد عصورا تنويرية يمكن التأسيس عليها في استنباط قيم الفصل بين السلطات.

إنه مبدأ احترام الوظائف والمواقع الذي نفتقده، وثقافة واضحة في أخلاقيات عدم التعدي وحشر الأنف في ما يمكن أن يشغله غيرك، بالإضافة إلى وعي جديد بتغير المعطيات السياسية والثقافية والتكنولوجية،  فالتطورات السريعة التي تحصل باستمرار في المشهد العالمي بعد ثورة المعلومات الكبيرة تجاوزت ثنائية المثقف والسياسي بعد أن ظهر لاعبون جدد لهم قدرة مهمة وبارزة في التغيير مثل أصحاب الشركات العملاقة: آبل، مايكروسوفت، فيسبوك، وغيرهم.

وفي هذا الصدد يتساءل الكاتب حسن العاصي، عمن يؤثر في الواقع أكثر، بيل غيتس ومارك زوكربيرغ وأمثالهم أم جون بول سارتر أو نعوم تشومسكي وادوارد سعيد وغيرهم من كبار المفكرين الإنسانيين؟

وبالعودة إلى النموذجين العربيين في علاقة المثقف بالسياسي في دولتي ” الربيع العربي” تونس ومصر، نجد أن تبادل الأدوار بين العصا والجزرة، لم يتغير، فالمثقف التونسي ازداد رغبة في الوصول إلى الجزرة، وبمحض إرادته أو لحاجة مادية واضحة، في حين أن مثقفين من مصر، قد ازداد خوفهم من العصا، (أكثر من رغبتهم في الجزرة، ولنفس الأسباب) في ظل ما يظهر من تضييق على الحريات، ربما بالغت وسائل إعلام غربية في الحديث عنه، لكنه حقيقة معاشة، وقد يبدو من الصعب الحسم في تبريرها.

الأمر الذي قد يقدره المراقبون والمتابعون لمواقف المثقفين في كلا البلدين، هو التصدي للإرهاب والقوى الظلامية التي تهدد أمن وحريات المجتمع المصري والتونسي، لكنّ مثقفي تونس أكثر ” مكرا” من أقرانهم المصريين، ذلك أن خطر الإرهاب الإخواني، ليس في مقدمة مخاوفهم.. بل شيء آخر اسمه ” الزعامة الثقافية” مقابل طموحات لزعامات سياسية تنقصها المشروعية الثقافية في بلد يحتل فيه ” البريستيج الثقافي” مكانة مرموقة منذ الزعيم بورقيبة، الذي ـ وللحقيقة ولأسباب ربما نرجسية ـ قد أولى الثقافة حق قدرها في بلد متواضع الثروات الطبيعية والأمكانيات العسكرية.

السؤال الأهم، أمام هذا السجال الذي قد يبدو قديما متجددا، هو لماذا كان المنتج الفكري والثقافي قبل ثورات ” الربيع العربي” أجدر وأنفع.. هل يتعلق الأمر بالتزام الحدود بين الثقافي والسياسي؟ أم أنّ ” الطموح الزائد” قد أفسد المسألة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى