العيد وفلسفة (التشاؤل)العربي (حكيم مرزقي)

حكيم مرزقي

 

تخيّلوا لو كان العيد ضيفا ثقيلا, يزور ديارنا ولا يغادرها مدّة عام بأكمله, يجثم على صدورنا ويخنقنا كمن يسبح في نهر من العطر صباحا ومساء… ألا يحتاج المرء عندئذ إلى اشتمام روائح كريهة ومقزّزة لتعديل كفّة المزاج والحفاظ على مخزونه الاحتياطي من الزهو والفرح.
ما قيمة الاحتفال بهواء نتنفّسه كل لحظة وطعام نتناوله في كل وجبة وحديث نتكلّمه متى شئنا ؟! ولماذا نهنّئ بعضنا بعضا بقولنا: (الله يجعل أيامك كلها عيد) … هل ندعو على أنفسنا بالرتابة والملل واجترار لحظة واحدة من الإحساس كمن لا يتغذّى إلاّ من العسل ولا يتمشّى إلاّ بين أريج الزهور.
لا, ليس هذا … قصدت بالعيد كل ما تنشده البشرية من سلام ووئام ومحبّة وتعايش, كل ما تتوق إليه الشعوب المقهورة من حياة كريمة و (طبيعيّة) … وليس ذلك المفهوم الطوباوي عن الفرح الأبدي والسعادة الأزليّة والسلام السرمدي مع النفس ومع الآخرين.
هذا الذي تسمّيه شعوبنا عيدا ويوما استثنائيا في حياتها البائسة هو مجرى طبيعيّا لدى مجتمعات تحمد  الله الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف, و أهدت نفسها ما يستحقّه الكائن البشري من حياة تليق بجنسه وتكرّم نعمة عقله وأسباب وجوده.
العيد إذن, هو مفهوم نسبيّ, متحرّك ومتنوّع بتنوّع أحوال المكان والزمان وحال الرعيّة والسلطان, فأكل وجبة من اللحم لدى بعضهم يعدّ عيدا ,ومجرّد الأكل لدى آخرين هو
عيد أيضا …وهناك من يرى في مجرّد البقاء على قيد الحياة عيدا لا يعادله أيّ عيد.
دأبت بعض السلطات العربية عادة على (منح) عفو يتضمّن إطلاق سراح الموقوفين عشيّة الأعياد, ويشمل سجناء الرأي و(الحقّ العام ) -بحقّ أو بغير حقّ- فتتضرّع الأمهات لربهنّ حمدا وشكرا وتسبيحا, تنطلق زغاريد الزوجات, يبتهج الأطفال وتقام الاحتفالات في الأحياء ويتلقّى أهل (السجين المحرر ) التهاني والتبريكات …. على خروج ابنهم سالما وهو الذي دخل مظلوما ..! وغالبا ما يجبر الأخير على إعلان (التوبة) أمام الملأ والتقدّم بالعرفان والامتنان لمن منحه حريته وأنعم عليه بحياة طبيعيّة مع الأهل والآخرين, وتتشدّق الجهات الإعلاميّة والجمعيات المدنيّة بضرورة (إعادة تأهيله) في المجتمع .
أليس الأمر يشبه حكاية ذلك الحمّال البائس الذي أضاع حماره في الأسواق, تعب وتعذّب كثيرا في البحث عن (وسيلة انتاجه) الوحيدة, وحينما عثر عليه أقام سبعة أياما بلياليها من الاحتفالات وتوزيع الحلوى والمرطّبات, ممّا كلّفه أكثر من ثمن حماره… حماره الذي يملكه ولم يهبه له أحد.
هكذا تحتفل الشعوب البائسة والمجتمعات المقهورة بنوافل القول والحياة, بما هو بديهي وعادي, بالحقوق المشروعة والمكتسبة, كأن يتباهى أحدهم بأنه قال رأيه دون أن يقطع لسانه ونال جواز سفر دون عوائق, سافر دون تعطيل, عاد دون إيقاف …و(رجع إلى بيته فرحا مسرورا ) كما كنّا نكتب صغارا في مواضيع الإنشاء.
هكذا تنقلب المفاهيم فتمسي ماشية على رؤوسها وإذا زارنا الفرح يوما فإنه يأتي على رؤوس أصابع قدميه, خشية إيقاظ الحزن والخوف والعسس, صرنا نخشاه  ونعقّب بالدعاء بعد كلّ لحظة ابتهاج بسيط : (الله يعطينا خير هالضحكة) …ونتفاءل بعد نهر من الدموع ….(لعلّنا نعبره بعد كل هذا الحزن).
تقول نظرية التشاؤل العربي: إن وقع عليك سقف البيت فاحمد ربّك أنّ لديك بيت, إن ظلمك حاكم فاضحك في عبّك أنك تعيش في دولة, إذا فقدت عملك فافرح أنّك قد وجدت عملا منذ البداية, إن دخلت السجن فسبّح بحمده بكرة وعشيّا أنّك لم تحكم بالمؤبّد … وإن كان مؤبّدا فافرح بعدم الذهاب إلى المشنقة … وإن كان لا بدّ من مشنقة فإنّها أيسر من وسائل إعدام أخرى أكثر إيلاما وفظاعة.
وأخيرا, على قدر أهل العزم والكرامة تأتي الأعياد … وإن كانت أعياد قوم عند قوم كوارث.. وسيأتي العيد الذي نتفاءل فيه دون حذر.
*كلمة في الزحمة :أقترح أن نتبادل الأيام بيننا وبين المجتمعات المرفّهة: يوما منّا فيكون عيدا لهم … ويوما منهم فيكون عيدا لنا…على اعتبار أنّ العيد يوم استثنائي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى