القضية الفلسطينية من القومية إلى الأسلمة والتهميش

بعدما كانت قضية العرب الاولى، ها هي القضية الفلسطينية اليوم تحتل مراتب دنيا في اهتمامات العرب والعالم. «داعش»، بعد «القاعدة»، خطف الاضواء في المرحلة الراهنة، الا ان اضواء القضية الفلسطينية خفتت منذ سنوات بعدما تحولت منذ اتفاق «أوسلو» من قضية قومية الى قضية وطنية ومنها الى قضية اسلامية. مع انشاء السلطة الوطنية في العام 1994، عاد النزاع الى فلسطين بعد مسارات مختلفة، من الاردن الى لبنان ومن ثم الى شبه المنفى في تونس. فمنذ نكبة 1948 حتى انتفاضة الحجارة في أواخر 1987، تبدلت القضية ومعها النزاع واوضاع الفلسطينيين واسرائيل. النزاع العربي – الاسرائيلي في الحقبة الحالية لم يعد يحسب له حساب، اقليميا ودوليا، والفلسطينيون منقسمون، جماعات و «كيانات»، واسرائيل انتقلت من مقولة امن الدولة الى امن هوية الدولة. اما الدول الكبرى المعنية بالنزاع، لاسيما الولايات المتحدة، فلم تعد تعتبر ان الحل ممكن، اقله بالنسبة الى الادارة الحالية التي حاول وزير خارجيتها اخيرا ايجاد تسوية مجتزأة وفشل، وهي تعتمد سياسة خارجية مشتتة، خصوصا في الشرق الاوسط.

النزاع بين العرب واسرائيل لا يزال قائما وان لم يعد محتدما. الجولة الاخيرة من المواجهات العسكرية على المستوى العربي كانت حرب 1973. والحروب التي تلتها كانت مختلفة، ثنائية الطابع والهدف، مثلما كان الاجتياح الاسرائيلي للبنان و «لمنظمة التحرير» في لبنان في 1982، وبعد سنوات، وفي ظروف مختلفة، حرب صيف 2006 بين «حزب الله» واسرائيل. الدفاع العربي المشترك برعاية الجامعة العربية تعطل منذ نحو نصف قرن والكفاح المسلح الذي ارتبط بالعمل الفدائي توقف عمليا بعد حرب 1973، وهي الحرب التي وضعت مفاعيلها الاطراف العربية المنخرطة في النزاع العسكري في مسارات منفصلة. معاهدة السلام بين مصر واسرائيل في 1979 اخرجت الجيش المصري من النزاع وقابلها «صمود وتصدّ» بقيادة العراق وسوريا. ففي حين وصلت صواريخ صدام حسين الى تل ابيب في 1990 في عرض عضلات بلا جدوى، ونالت اسرائيل بالمقابل منظومة دفاع متطورة (scud) من الولايات المتحدة مكافأة على عدم ردها على الصواريخ العراقية، فإن جبهة الجولان ظلت هادئة منذ 1974، ولم يعكّر صفوها الا الحرب الدائرة الآن في سوريا.

جاءت انتفاضة الحجارة لتنشل حجر القضية وبشرها من الضياع ونتج عنها حوار فلسطيني – اميركي في تونس سرعان ما توقف واعلان الدولة الفلسطينية في 1988. الحرب العراقية – الايرانية، وبعدها اجتياح صدام حسين للكويت ولاحقا حرب التحالف الدولي والعربي لتحرير الكويت، شكلت بداية النهاية للنظام العراقي ولوحدة العراق. الا ان هذه التطورات اعطت دفعا لاطلاق مؤتمر السلام في مدريد في 1991 والمفاوضات العربية – الاسرائيلية التي انتجت اتفاق «أوسلو» في 1993 من خارج المفاوضات، ومعاهدة سلام بين الاردن واسرائيل في 1994، وكادت سوريا واسرائيل ان توقعا معاهدة سلام في 2000.

مع انشاء السلطة الوطنية وعودة القيادة الفلسطينية الى الاراضي المحتلة تنفيذا للمرحلة الاولى من اتفاق «أوسلو»، برز مؤيدون ومعارضون كثر للاتفاق من جانبي ضفة النزاع. ولم ينتج عن المرحلة الانتقالية، المحددة بخمس سنوات، لاسيما بعد تنفيذ المرحلة الثانية في مناطق ثلاث خاضعة للسلطة الوطنية واخرى لاسرائيل وثالثة مختلطة، سوى المزيد من الاخفاقات والصدامات المسلحة. مجيء حزب العمال الى الحكم في اسرائيل بقيادة اسحق رابين اعطى الاتفاق زخما، لكن سرعان ما انقطع بعد اغتيال رابين وعودة حزب «الليكود»، المعارض اصلا لاتفاق «أوسلو»، الى الحكم بقيادة بنيامين نتنياهو. هكذا بات مسار «أوسلو» مرتبطا بنتائج الانتخابات الاسرائيلية وتنامي نفوذ اليمين المتطرف، يقابله معارضة متزايدة لدى الجانب الفلسطيني بعدما فرض نتنياهو شروطا تعجيزية فانتقل مشروع التسوية من «ارض مقابل السلام» الى «أمن مقابل السلام»، اي عمليا عرض اسرائيلي لسلام بلا دولة. فيما بعد، شكلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي افتعلها شارون في 2000 ذريعة اضافية للقضاء على السلطة الوطنية، واستفادت اسرائيل من المناخ الدولي الملائم للتصدي للارهاب بعد اعتداءات 11 ايلول 2001.

وجاء الغزو الاميركي للعراق في 2003 ليضع النزاع العربي – الاسرائيلي على هامش اهتمامات المجتمع الدولي، الى ان استعادت ادارة بوش الابن المبادرة وعقدت مؤتمر انابوليس في 2007 الذي جاء متأخرا وغير ذي جدوى بعد انهيار مقومات «أوسلو» جميعها: وفاة ياسر عرفات في 2004، التعنّت الاسرائيلي لانهاء مسار «أوسلو»، الانقسامات الفلسطينية التي وصلت الى حد الصدام المسلح بين السلطة الوطنية (ومعها «فتح») و «حمــــــاس» التي احكمت سيطرتها على غزة بعد انتـخابات 2006. ولم تنـــــفع المسكنات الدولية وأبرزها خريطة الطريق (Roadmap) تحت لواء الرباعية (Quartet) المتعثرة منذ انطــــــلاقتها، ولا المبادرات والصدمات الايجابية في جسم التسوية المتهاوي، ومنها موقف الرئيـــــس بوش الداعم لاقامة الدولة الفلسطينية والمــــــبادرة العربية للــــــسلام التي اعلـــــنتها القــــــمة الــعربية في بيروت في 2002، بينما كان الجــــــيش الاســــــرائيلي يُحكم حصاره لمقر ياسر عرفات في رام الله.

في السنوات الأخيرة، باتت غزة ساحة القتال الوحيدة بعد ان انسحبت منها اسرائيل لتعود وتشن حروبها الثلاث المدمرة وغزة مطوقة بحصار قاتل من الجهات كافة، العربية والاسرائيلية. الشرق الاوسط الجديد (وهو غير الشرق الاوسط بعد حرب العراق) الذي درج الكلام عنه في منتصف التسعينيات في زمن المفاوضات العربية – الاسرائيلية، لم يبقَ منه سوى الذكرى. اسرائيل اليوم في اقصى حالات الغطرسة «الداعشية» المنحى، ليس فقط باتجاه العدو، بل ايضا باتجاه الحليف، الى حد ان نتنياهو يتحدى الرئيس الاميركي اوباما بالقاء خطاب في الكونغرس، وهو غير مرحب به من الادارة ومن اعضاء كثر في مجلسي الكونغرس. كل ذلك يحصل في زمن الاختلال الكبير في موازين القوى الاقليمي مع انهيار النظام الاقليمي العربي وتفكك الدول واشتعال الحروب من اجل الدفاع عن الدين، بعدما بات الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين بنظر حماة الدين من مشاغل الدنيا.

الحروب العربية – الاسرائيلية التي خاضتها الجيوش منذ 1948 لم يبقَ منها على ارض النزاع سوى الجيش الاسرائيلي. والمعركة المحتدمة اليوم والاكثر استراتيجية، لا سيما بالنسبة الى اسرائيل، تتمحور حول القدرات النووية لإيران السائرة في خطى ثابتة باتجاه تفاهم مع الولايات المتحدة. وهي ايضا معركة العرب الاولى بعد سقوط الانظمة والدول وتفاقم التشرذم المذهبي. وعندما وصل «الاخوان المسلمون» الى الحكم في مصر، استكملوا المعركة في الداخل وهادنوا الخارج، ملتزمين معاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية التي صنعها السادات وصانها مبارك، الاول قتل على يد جماعة التكفير والهجرة الاسلامية والثاني هجّر من القصر الى السجن.

«القاعدة» اعلنت الجهاد ضد اسرائيل من افغانستان و «داعش» اعلن الجهاد على «العدو الاقرب»، و «داعش» و «النصرة» في صراع دموي حول اقتسام الجنة المحررة، بينما «فتح» و «حماس» في صراع حول الارض المحتلة. فمن ياسر عرفات وجورج حبش الى عبدالله عزام وابو بكر البغدادي، ومن ليلى خالد الى ساجدة الدليمي، تدخل القضية الفلسطينية في مدار الاسلمة وفي قفص التهمته النيران منذ زمن، قبل ان تحرق النيران البشر احياء باسم العنف الديني الاستعراضي الذي لا يقتل في النهاية سوى فاعليه.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى