المسكوت عنه في رواية “سالمين”

 

استشهد الروائي اليمني عمار باطويل في روايته “سالمين” بأبيات للشاعر السوداني محمد الفيتوري والتي يقول فيها: “الآن وجهي أسود/ ولأن وجهك أبيض/ سميتني عبداً/ ووطئت إنسانيتي/ وحقرت روحانيتي/ فصنعت لي قيدا والرواية تحكي عن مسترق قديم في منطقة حضرموت، لا يعرف أباه ولا أمه ولا من أين أتى؟ الرواية بلسان البطل (حمد) وهو شاب يخلف أباه في المسئولية بعد أن هاجر لمنطقة (جاوة) أندونيسيا حالياً، شأن أغلب الحضارمة الذين هاجروا قديماً في فجاج الأرض الواسعة. ومن المسئوليات التي تركها له واحد من مسترقي وعبيد والده (سالمين الأسود). وقد تركه يسرد قصته بنفسه حتى نهاية الرواية. وظف بذلك السرد التناوبي بينهما الاثنين. وقد جسّد الروائي (عمار باطويل) شخصية (سالمين) تجسيداً رائعاً، كشخصية متصالحة مع نفسها ومتقبلة لقدرها الذي لا مفر منه.

وتقول بلغة متداعية أليمة أفلح الكاتب في جملها الوصفية وهو يقول {فكلما قال دحق “أمشي” يا عبد وضربني بكرسي البندقية في ظهري، كنت أشعر بألم شديد وإهانة بالغة لن أنساها، وكان بوسعي أن أدحقه برجلي وأقيده وأغدر بمحمد سالم، ولكن كان يعتريني الخوف والهزيمة من الداخل، ولو ضربت محمد سالم أين أهرب، وإن هربت سوف يردني أحد الرجال المعروفين في الوادي، أو سوف يتم خطفي من قبل لصوص العبيد وبيعي في منطقة بعيدة وربما دولة مجاورة أو يتم قتلي}.

بهذا الاستسلام لقدره وواقعه، سافر مع حمد، ابن سيده للمملكة العربية السعودية وبالتحديد مدينة جدة، وهناك نال حريته. واغتنى وصار يملك الملايين بعد أن مارس التجارة. أتاحت له الحرية التي وجدها في المملكة العربية السعودية، أن تنطلق مواهبه الكامنة بداخله، وأن يحقق ذاته بأن يتفوق على الآخرين. “هكذا يا سالمين نسيت البلاد بعد ما وصلت إلى جدة، التهيت بالتجارة والمال وأصبحت حراً بعد العبودية، وحياة التعب والبهدلة في تلك الجبال والأودية، ولعلك نسيت أباك وأمك، ولم تبحث عنهم بعد ما كبرت ورزقك الله بالعيال والبنات والأحفاد…”.

يمكن لمثل رواية سالمين أن تفتح الباب واسعاً لمدرسة التحليل النفسي للأدب والتي تستفيد من شخصية سالمين في تحليل واقعها النفسي التي تعيش فيه

وبهذه الشخصية، شخصية (سالمين)، والتي يوجد نماذج لها في الكثير من البلدان والمجتمعات العربية، فتلك من الشخصيات المسكوت عنها وخاصة في الكتابة الروائية العربية. ويمكن أن تدخل هذه الرواية في مدرسة الواقع الاجتماعي العربي التاريخي. ورغم تاريخيته، فما زال هنالك من يعيش مرارته ويكتوي بناره وهو ضحية لواقع تاريخي لم يختره ولم يشارك في صنعه. لم تخل فترة الاسترقاق التي عاش فيها (سالمين)، من خدوش نفسية وعقد مستحكمة في داخله، وقد أفلح الروائي عمار باطويل في تجسيدها برمزية عالية، يقول عنه: “سالمين تحول إلى إنسان باحث عن المال في جدة بعد سنوات العبودية في حضرموت وأصبح يحقق رغباته الجنسية بعد ما كان محروماً من الحرية، تحول إلى تاجر يملك ملايين وبدلاً من أن يفعل الخير وبناء السدود، أو بناء المساجد، كما هي عادة البعض من أهل حضرموت، فأن سالمين أراد أن يسوق النساء أمامه كلما سنحت له الفرصة، وأصبح سالمين الحضرمي معروفاً في حياة النساء بحبه لهن وإعطائهن الأموال والهدايا وخاصة من الجنس المعاكس للونه الذي يتفاخر باصطيادهن بسهولة، كان يستمتع بهذا التحول الجنسي عندما يخلط الأسود بالأبيض”.

ولعل هذا اللون هو الذي سبب له المشاكل وأصبح مميزاً له عن الآخرين كان يكرهه ويتمنى أن لا يلصق بأبنائه وأحفاده من بعده. “تمنيت أن أكون شيخاً أو سيداً أو قبيلياً، أو أي شيء لا يباع، تمنيت أن أحمل صفة غير صفة العبودية ولونا غير اللون الأسود“. 

لقد حفرت هذه الرواية عميقاً في نفسية بطلها (سالمين)، والذي كان ضحية ظلم الإنسان لأخيه الإنسان في كل مكان، ومنذ قديم الزمان. فهو رغم المال لم يحقق ذاته ولم يشفِ جرحه. حتى نهاية الرواية. ورغم أنه قد هجّن أطفاله وأحفاده وحولهم إلى اللون الأبيض أو الأسمر، بل منعهم من أي اسم يعود بصاحبه إلى زمن الاسترقاق البغيض. “شوف يا ولدي أنا أبغى لولدك اسم أسياد وليس اسم عبيد أبغى اسمه طلال، وليس سرور سالمون سالمين، يعني ثلاثة عبيد، وكلنا نبدأ بحرف السين، والله فضيحة كبيرة علينا”. فسالمين هنا يعتبر صنيعة اجتماعية أدت هذه إلى أن تلازمه عقدته حتى الممات. وقد جعلت من ماضيه حاضره الذي لا ينفك منه مهما حاول الهروب منه عن طريق الزواج من النساء البيض وإنجاب ذرية لا تشبهه.

ولعل الحاضر الجميل الذي صنعه حيث أسرة سعيدة وأحفاد لا يحملون عقدته كل ذلك يكشف عن قلبه الكبير المتسامح والذي لم يؤذِ من أذوه بل ظل مخلصاً لهم حتى الممات. {طلال دائماً عندما يسلم على جده سالمين، يسلم على رأسه ومن يشاهدهم سيلاحظ الفرق الكبير بينهما ولن يخطر على بال أحد أن طلال هو حفيد سالمين، فبشرة طلال تميل إلى السمرة الفاتحة والأنف المستقيم مع قليل من الانتفاخ، أما الجد سالمين فهو شديد السواد وأنفه كبير وصوته أيضاً كبير، كل شيء كبير في سالمين حتى قلبه كبير}.

الرواية تؤكد أن الإنسانية في الإنسان توجد في من عاش حراً ومن استرق غصباً عنه. والدونية التي لازمت سالمين طول حياته لم تشوه داخله ولم تجعله حاقداً على من يخالفه في اللون أو غيرهم. فقد كان يجتر ماضيه ويحرقه لوحده ولم يشرك معه أحدا غيره.

{ما زلت أحلم بمحمد سالم الذي لم يغب عني وبرغم محاولتي نسيانه، يتكرر الحلم أكثر من مرّة عبد للبيع، عبد للبيع، وأنا أصيح في الحلم: أنا سالمين يا ناس، أنا تاجر، وأحفادي بيض، بيض هجنتهم، وهم مش عبيد فكيف تحكمون عليّ بأني عبد؟}.

فماضيه الذي تحرر منه في الظاهر حيث أصبح تاجراً ثرياً حراً، وتزوج أجمل النساء، وأنجب أروع الأحفاد، ولكن ماضيه بداخله يتجسد له في أحلامه كوابيس مزعجة ومخيفة. وهذه الرواية التي حللت شخصية مسترقة وصاحبها ذلك طول عمرها، وكأنها تدين هذا الفعل البغيض الذي كان موجوداً في كل التاريخ الإنساني، وفي كل أرجاء الكون. والروائي عمار باطويل استخدم وعيه الإنساني الذي يرفض مثل تلك الممارسات القديمة.

في هذه الرواية، وظف كاتبها عدة تقنيات حديثة، منها تقنية السرد التناوبي، حيث يتبادل حمد ابن سيد سالمين الذي كان يملكه واصطحبه معه في جدة، وبين سالمين الذي كان يسرد واقعه وزمنه الداخلي النفسي بنفسه. ومنها تقنية الرجوع والعودة flash back، بحيث أتاحت هذه التقنية مع توظيف الحلم حسب المدرسة الفرويدية، في أن يجعل من ماضيه المخيف هو زمنه الداخلي الذي لا نراه ولا نشاهده. واستخدم تقنية عين الكاميرا التي ترصد الماضي الذي لم يعاصره (حمد) بن السيد، حيث نتجول بها ونرصد أسواق بيع الرقيق والمساومة البغيضة في آدمية إنسان لا يقل عن البائع والمشتري سوى ضعفه وقلة حيلته، “إذا هربت فأين سأذهب؟”. هذا السؤال المكرر والخالد في تاريخ الرق البغيض والذي كان يردده كل مسترق، “أنا يمكنني الهرب ولكن أين سأذهب؟”.

لغة الرواية كانت سلسلة وليست معقدة، بساطة البطل المقهور (سالمين) كانت تترك له حرية التداعي والحوار النفسي الداخلي monologue intérieur وهو يجتر ماضيه وأحزانه، والحوار السردي الخارجي وهو يسرد قصته لابن سيده (حمد) قسوة أبيه وقسوة من عاشروه وعاشوا معه في مكان واحد. وكان الكاتب ذكياً وهو يوظف شخصية سالمين، ولمعرفته بالمكان في آن يقوم بدور الراوي العليم لكي يسرد مشاكل الهجرة ومآسيها للحضارمة والذين تشتتوا في البلاد والاصقاع البعيدة، وبمثل ما عانوا خارج وطنهم، عانت أسرهم وقاست ألم الفراق والبعد كانت اللهجة الحضرمية، ظاهرة في الحوار ولكن أخضعها الكاتب في دائرة الفصحى فأتت جميلة ومفهومة لغير من يعرفها. رغم صغر الرواية، ولكنها كتبت المسكوت عنه في تاريخ المجتمعات العربية كلها، وحتى العهد القريب، كانت فيها العديد من الشخصيات التي تشبه وتماثل شخصية سالمين والتي رغم الحرية التي تعيش فيها ولكنها تحمل ماضيها بداخلها والذي أصبح عبئاً نفسياً كبيراً عليها. وبهذا يمكن لمثل رواية سالمين أن تفتح الباب واسعاً لمدرسة التحليل النفسي للأدب والتي تستفيد من شخصية سالمين في تحليل واقعها النفسي التي تعيش فيه.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى