الميثاقي بامتياز (كريم بقرادوني)

 

كريم بقرادوني

يتفق العارفون بحقبة استقلال لبنان أن الميثاق الوطني غير المكتوب هو صناعة آل الصلح لجهة تحديد هوية لبنان وانتمائه ودوره، والقول إنه «وطن ذو وجه عربي»، وأنه «لا مقر ولا ممر»، وأنه «لا شرق ولا غرب». ولكن لا أحد يجزم بشكل قاطع إذا كانت هذه المفاهيم من فكر رياض الصلح وصياغة تقي الدين الصلح أم الاثنين معاً!
من جهتي أجزم أن منح الصلح يتعامل مع هذه المفاهيم الميثاقية كأنها حبات من اللؤلؤ المتموجة الألوان تلمع أحياناً تحت شمس العيش المشترك والحريات والإنماء المتوازن فتضيء لبنان وبعض أرجاء المنطقة العربية، وتتهاوى أحياناً نتيجة انتشار أوبئة الحروب الخارجية والنزاعات الداخلية فتغيب شمس الاستقرار ليحل محلها ليل العواصف.
وتشاء الصدف التاريخية أن يرأس تقي الدين الصلح آخر حكومة جامعة للحيلولة دون اندلاع حرب لبنان وقد أطلق عليها تسمية «حكومة كل لبنان»، وأن يرأس رشيد الصلح أول حكومة واكبت سقوط لبنان في حرب دامت خمس عشرة سنة، أما منح الصلح فكان حاضراً في زهوة السلم وفي أحلك أيام الحرب، وهو على الدوام داعية توافق وتفهم.
لا أشك لحظة أن منح الصلح أبدى خشيته أكثر من مرة من انفجار البركان اللبناني بما يحويه من تناقضات داخلية وخارجية. وكان اللبنانيون في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي يدينون الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة إعلامياً لكنهم كانوا منقسمين سياسياً: اليمين المسيحي كان يلقي بمسؤولية الاعتداءات الإسرائيلية على الكفاح المسلح الفلسطيني، واليسار الإسلامي كان يحمل المسؤولية للنظام القائم والجيش اللبناني ويدعو إلى حتمية الإصلاح. وقد بلغت الصراعات الإيديولوجية أوجها وطرحت أسئلة لم تجد لها حينذاك أجوبة شافية: هل لبنان هو «هون كونغ» العرب كما يريده اليمين اللبناني، أم «هانوي» العرب كما يريده اليسار؟ وهل طريق فلسطين تمر من جونية أم تمر عبر المقاومة من داخل إسرائيل؟ وهل النظام الليبرالي هو الأصلح أم النظام الاشتراكي؟
لم يكن الجواب على هذه الأسئلة بالأمر السهل، وقد تميز منح الصلح بمواقف تترك الباب مفتوحاً أمام شتى التأويلات لكنها تصب كلها في مصب الميثاق الوطني. وقد لفتتني نظرته إلى القضية الفلسطينية فكان يرى فيها المفصل في القضايا العربية، غير أنه كان يتحفظ على بعض أداء المنظمات الفلسطينية. كما كان يلتقي والخيارات السورية الإستراتيجية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لكنه كان يتخوف في سره من دور للنظام السوري في لبنان، ويتحاشى الغوص علناً في العلاقات اللبنانية ـ السورية الشائكة، وينحو تلقائياً إلى الثقة بمصر والعراق.
دفعته ميثاقيته إلى مقاربة موضوع المسيحيين، شخصيات وأحزاباً، فابتدع مفهوم «المارونية السياسية» من دون أن يسجلها على اسمه وأطلقها على الطريقة الصلحية ليتم تداولها فتذهب مذهب الأحكام الشائعة والأقوال المأثورة من دون تحديد مصدرها أو صاحبها.
أخذ على الموارنة فشلهم في حكم لبنان، وعدم إشراك المسلمين في القرار، وعدم تحليهم بروح العدالة الاجتماعية فحوّلوا الوطن إلى مغانم لهم ولبعض القادة المسلمين، وإلى غبن أصاب المسلمين والمسيحيين على السواء. وخلص منح الصلح إلى أن «المارونية السياسية» تضر بالمسلمين والمسيحيين أيضاً، ويفيد منها بعض الساسة الموارنة وبعض الساسة المسلمين. «المارونية السياسية» لم تكن في نظره حكراً على القادة الموارنة، بل كانت تشمل بعض قادة السنة والدروز والشيعة الذين كانوا يستغلون الوضع القائم. كما كانت انعكاسات «المارونية السياسية» لا تصيب المسلمين لوحدهم بل تصيب شريحة واسعة من المسيحيين.
أذكر أني شاركت إلى جانبه في إحدى المناظرات بعد وقف الحرب في لبنان، وكان النقاش يدور حول اتفاق الطائف وتداعياته، فناديت بضرورة تطوير مشروع إصلاحي يكون بحجم الحرب التي عانى منها اللبنانيون، وقلت إن اتفاق الطائف هو حل صغير لحرب كبيرة. لم يرد عليّ منح الصلح أثناء المناظرة، بل أخذني جانباً بعد اختتامها وقال لي وهو يتكئ على عكازته: المشروع الذي تفتش عنه موجود، وهو الميثاق الوطني، وعلى المسيحيين أن يتمسكوا به فلا يخرجون عنه ولا يتركون فرصة للآخرين للانقلاب عليه. سألته من يعني: «بالآخرين»؟ أجابني بهدوئه المعهود: «أنت تعرفهم أكثر مني!».
أمام هذه الشخصية المتعددة الأوجه والجوانب والأفكار، أعلن عجزي عن الإحاطة بها، وإعطائها حقها، لكني أحفظ عنها دعوتها المسيحيين بعامة والموارنة بخاصة ليكونوا ميثاقيين فينقذوا أنفسهم ولبنان.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى