تحليلات سياسيةسلايد

المُصالحة السعوديّة الإيرانيّة تجتاز مرحلة “الاختبار” بسُرعةٍ

تسير المُصالحة السعوديّة الإيرانيّة التي انطلقت بعد إعلان الاتّفاق الثنائي بين البلدين الجمعة الماضي برعايةٍ رئاسيّة صينيّة بخطواتٍ مُتسارعةٍ، نحو تطبيعٍ كاملٍ في العلاقات و”تصفير” المشاكل بينهما، بعد عُقودٍ من الخِلافات والصّدامات العسكريّة والسياسيّة.

توجيه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز دعوةً إلى الرئيس إبراهيم رئيسي لزيارة المملكة اليوم، وترحيب الأخير بها بشَكلٍ سريع، يؤكّد على رغبة قيادة البلدين على المُضيّ قدمًا في تطبيق بُنود اتّفاق المُصالحة، ونسف مُعظم الآراء التي تحدّثت عن فترةِ اختبارٍ تجريبيّةٍ تمتدّ لمُدّة 60 يومًا، وتؤكّد أن القمّة التي ستُعقَد في الرياض بين الملك سلمان والرئيس الإيراني قد تكون تتويجًا لتفاهماتٍ في ملفّاتٍ ثنائيّة وإقليميّة عديدة، خاصّةً في مِلف الحرب اليمنيّة (نعتقد أن الاتّفاق شِبهُ جاهز)، والأزمة اللبنانيّة، ورفع الحِصار عن سورية وإعادتها إلى الجامعة العربيّة والمُساهمة السعوديّة في معركة إعادة الإعمار عبر بوّابة القمّة العربيّة القادمة، التي قد تستضيفها الرياض بعد شهر رمضان المُبارك.

هذا التقدّم المُتسارع في العلاقات بين أكبر قوّتين شرق أوسطيين يُمكن النّظر إليه من منظورِ انعِكاساته اللّافتة على المِنطقة والعالم بأسْره، وهي انعكاساتٌ يُمكن تلخصيها في النقاط التالية:

أوّلًا: إعادة اللُّحمَة إلى العالم الإسلاميّ، وتوحيد قُطبيه الأبرزين، من خِلالِ مُصالحةٍ، سُنيّة شيعيّة، ووأد مُؤامرة الانقسامات والتّحريض الطائفي الفتنوي الذي وقفت وتقف خلفه الولايات المتحدة و”إسرائيل”.

ثانيًا: إغلاق الأبواب أمام كُل طُموحات التطبيع الإسرائيليّة وتوسيع دائِرتها بحيث تشمل دولًا جديدةً، والمملكة العربيّة السعوديّة تحديدًا، وتهميش، وربّما إلغاء، كُل اتّفاقات ما يُسمّى “بسلام أبراهام” وأدبيّاتها، فشاهدنا السعوديّة ترفض إعطاء تأشيرات دُخول لوفدٍ إسرائيليّ للمُشاركة في مُؤتمرٍ دوليّ في مدينة العُلا، وتجميد دولة الإمارات لكُل اتّفاقات التعاون وصفقات الأسلحة مع دولة الاحتِلال، وتبرّعها بثلاثة مِليون دولار لإعادة إعمار مدينة حوّاره، وهذه خطوة ذات أبعاد رمزيّة مُهمّة جدًّا.

ثالثًا: العصر الأمريكي الذي هيمن على المِنطقة مُنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية بدأ يَلفُظ أنفاسه الأخيرة، لمصلحة صُعود التحالف الصيني لروسي ومنظومة دول “بريكس” التي ستكون العُنوان الأبرز للنظام العالمي الجديد بشقّيه الاقتصادي والعسكري وبَديلٌ مُوازٍ لحِلف الناتو.

رابعًا: البند الذي ورد في الاتّفاق بشأن تفعيل التعاون الأمني الذي ورد في اتّفاق عام 2002 كان البند الأهم، لأنّه يعني إلغاء كُل الخطط الأمريكيّة لجعل دولة الاحتِلال هي المنصّة الإقليميّة الحامية لدول الخليج في إطار أُكذوبَة مُواجهة الخطر الإيراني، وهذا التّفعيل قد يُؤدّي إلى استراتيجيّةٍ عكسيّة، أيّ التّنسيق بين البلَدين المُسلمين لمُواجهة الخطر الإسرائيلي، فإيران لم تَعُد “البُعبُع” أو “خيال المآتة” لتخويف وإرعاب دول الخليج، أو هكذا نأمَل.

خامسًا: التقاء المصالح الإيرانيّة السعوديّة على أرضيّة الحِوار لإيجاد الحُلول الدّائمة لكُل القضايا الخِلافيّة، فإيران التي تُواجه تهديدًا إسرائيليًّا أمريكيًّا بسبب برامجها النوويّة تُريد أن تتفرّغ لهذه التّهديدات والتصدّي لها، المملكة العربيّة السعوديّة تُريد الخُروج من “مِصيَدة” حرب اليمن الاستنزافيّة ماديًّا وبشريًّا، للتفرّغ لتحقيق طُموحاتها الدوليّة في التحوّل إلى أحد أبرز المراكز الاقتصاديّة والماليّة في العالم، وتقليص اعتِمادها على النفط تطبيقًا لرؤية عام 2030.

سادسًا: تصريحات السيّد محمد الجدعان وزير الماليّة السعودي التي أكّد فيها على استِعداد بلاده لضخّ المِليارات للاستِثمار في السّوق الإيرانيّة الضّخمة يؤكّد على حُدوثِ تغييرٍ جذريّ في الأولويّات لحُكومته، أيّ تقديم المصالح على العَداوات التاريخيّة، السياسيّة والعقائديّة وفتْح صفحةٍ جديدة.

سابعًا: عودة القضيّة العربيّة والمركزيّة الأولى إلى مكانها في صدارةِ مركز اهتمام الأُمّتين العربيّة والإسلاميّة المُشترك ومُؤسّساته، سواءً الجامعة العربيّة أو منظّمة المُؤتمر الإسلامي، من أجل تحرير الأرض والمُقدّسات، كلّها احتِمالات باتت أكثر ترجيحًا بعد هذا الاتّفاق.

وصول الرئيس الإيراني السيّد إبراهيم رئيسي المُتوقّع وربّما الوشيك إلى الرياض واستِقباله “الحافِل” من قِبَل العاهل السعودي في حالةِ حُدوثه، سيُؤرّخ لنهاية مرحلة وبداية أُخرى ليس في مِنطقة الشّرق الأوسط فقط، وإنّما في العالم بأسْره، وانكِماش الهيمنة الأمريكيّة إن لم يكن نهايتها، وصُعود نجم العالم الجديد مُتعدّد الأقطاب بقِيادة الصين.

التقدّم التّكنولوجي الإيراني في مجالات الإنتاج العسكري (الصّواريخ الأسرع من الصّوت، والمُسيّرات، والغوّاصات، والبرامج النوويّة)، ربّما يكون أحد أبرز مجالات التعاون المُستقبلي بين البلدين في الأيّام المُقبلة لأنّ التّعاون في هذا المجال إذا تم سيُؤدّي إلى إنهاء سِباق التسلّح في المِنطقة الذي لم يفد إلا الولايات المتحدة والدّول الغربيّة الأُخرى على مدى العُقود الماضية.

***

الصين كانت، وستكون، الرّابح الأكبر من خِلال هذا الاختِراق الكبير لعودة السّلام الإقليمي في الشّرق الأوسط، وزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وشارك فيها في ثلاث قمم سعوديّة خليجيّة عربيّة، لم تكن من أجل توقيع صفقات أسلحة، وإنّما من أجل بَذْر بُذور مرحلة التّغيير والعودة إلى المِنطقة عبر بوّابة المُصالحة السعوديّة الإيرانيّة التي بدأنا نشهد ثِمارها حاليًّا في التّوقيت المُناسب جدًّا، أيّ أُفول النّفوذ الأمريكي.

نتوقّع انفراجًا في الأزمة اليمنيّة يقود إلى سلامٍ سعوديّ يمنيّ يُكرّس الوقائع الحاليّة على الأرض، وبرفعٍ دائمٍ للحِصار على أرضيّة تسوية شاملة، مثلما نتوقّع انفراجًا آخر في الأزمة اللبنانيّة وانتِخاب رئيسٍ جديد، وزيارة وشيكة للرئيس بشار الأسد إلى الرياض.

بعد حُزمة التّفاؤل هذه لا يغيب عن ذِهننا مُحاولات واشنطن وحليفها الإسرائيلي شبْه الوحيد الذي قد يبقى في المِنطقة، لإغراق السّفينة والذّهاب إلى حربٍ بهدف التّخريب، في مُحاولةٍ يائسةٍ لاستِعادة الهيمنة بالقوّة، وهذا غير مُستَبعد، فأمريكا الآن مِثل النّمر الجريح بسبب أزَماتها الداخليّة وهزائمها الخارجيّة، والنّهاية قد تكون كارثيّة على الاثنتين معًا.

أمريكا المهزومة في حرب أوكرانيا وما زالت تلعق جُروح هزيمتها المُذلّة في أفغانستان، وقبلها في سورية والعِراق، وإسرائيل لم تنتصر في حربٍ مُنذ نكسة عام 1967، ولن تتوقّف الانتِفاضة المُسلّحة الحاليّة إلا بإنهاء احتِلالها، وتابعوا ما يحدث في جنين وحوّارة.

قبل خمسة أعوام نصحنا القُرّاء الأعزّاء في هذا المكان بتعليم أولادهم اللّغة الصّينيّة لأنّها لُغة المُستقبل، وفي ظِل الانتِصار الصّيني الكاسِح في المِنطقة، نُكرّر النّصيحة نفسها، ونُضيف إليها اللّغة الفارسيّة، مثلما نتمنّى على الإيرانيين في المُقابل تعليم أولادهم اللّغة العربيّة أيضًا لتكريس ثقافة السّلام والحِوار والتّعاون، والارتِقاء إلى مُستوى المُتغيّرات في المِنطقة والعالم.

 

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى