نوافذ

امرأة عربية في مطار ” عربيّ “

-المكان : مطار ”  عربيّ ” .

– الزمان : الأربعاء ، الواقع فيه 25/12/2002، الساعة الثانية عشرة ظهراً .

كنت عائداً  من ” الدوحة ” في ” قطر ” بعدما اشتركت ، البارحة الثلاثاء  ، في ندوة تلفزيونية ، في ” قناة الجزيرة ” ، برنامج ” الاتجاه المعاكس ”  –  مع الدكتور فيصل القاسم ، ومحاوري الدكتور منصف المرزوقي   –   عن الوحدة العربية  : موانعها الداخلية والخارجية ، ومقارنتها بالاتحاد الأوروبي، وعندما هبطت الطائرة في مطار ”  عربيّ ” ، المفترض أنه مطار دولة عربية ، ويفترض أن يكون العاملون فيه عرباً أولاد عرب ، يتقنون إلى جانب لسان آبائهم وأجدادهم وهويتهم لسان العم سام الأمريكي أو الإنكليزي، ليسهلوا ، بعروبة لسانهم ، مرور أبناء جلدتهم وأمورهم أولاً ، ومرور ” الأجانب ” العابرين أو الوافدين أو الغابرين من غير العرب بإنكليزيتهم ثانياً … ويفترض أن تسود في هذا المطار العربي – وفي كل مطار عربي آخر – اللغة العربية ، والعادات العربية ، والتقاليد العربية ، والنخوة العربية …. ولكن …ولكن الأمرَ كان  على عكس ما يتمنى المرءُ المنتمي إلى هذه الأمة المنكوبة بكياناتها وبالحكام والأنظمة . فوجدت نفسي في هذا المطار ، كما هو الأمر في كل مطارات الدول العربية باستثناء بعضها طبعاً – فوجدت نفسي غريب الوجه واليد واللسان ، كما يقول المتنبي . فكل الموظفين  – ربما باستثناء موظفي الأمن والجوازات – هم من غير العرب ، ولا يفهمون العربية ، ولا ينطقون باللسان العربي المبين ، الذي يفتخر حكام  الأمة بالانتساب إليه  من دون اتقانه من قلة قليلة منهم ، والأنكى من ذلك والأمَرُّ أن هؤلاء الموظفين ” غرباء ” بكل معنى الكلمة عن اللسان العربي وحضارته وقيمه وأخلاقه وعادات أهله وتقاليدهم . …وسأوضح ذلك بحادثة ” بسيطة جداً ” وقعت في مطار “عربيّ ” ، وقد تقع في أي مطار من مطارات الدول العربية  …

حدث يا سادتي الكرام ، أطال الله في أعماركم ، أنه في هذا المطار ، وفي ذلك اليوم ، وفي تلك الساعة ، اتجهت نحوي امرأةٌ عربية ، بسيطةٌ كأمتنا ، فقيرةٌ كشعبنا ، مستضعفةٌ ككل أبناء الأمة العربية الخالدة من المحيط إلى الخليج . اتجهت نحوي وقالت لي برطانة من علم أن لسانَه العربيَّ لا يُستَعمَلُ ولا يُفهم في هذه الأرض التي يقال عنها : عربية ، وأن قيمَه قد طارت وتبخرت ، قالت لي المرأةُ العربيةُ مغمغمة : ” أ..ر  ب   ……. أربي ” ،لعلمها – نتيجة معايشتها الواقع المرير الذي تجرعته – أنه لا أحد يفهم العربية هناك … ولا أحد يحترم العربية أيضاً ما دامت تلبس زي العرب الفقراء الكادحين .

– قلت لها :نعم أنا عربي … أنا عربي  ، يا أختاه ، فماذا تريدين ؟

دهشت  هذه المرأة ؛ لأنها لم تتوقع أن تسمع أصواتاً عربية ، أو كلمات عربية ، أو جملاً عربية  . فالموظفون  لم يفهموا منها ، وهي لم تفهم  منهم … ولكن دهشتها سرعان ما زالت بعد لحظة من تكلمي معها بلسان يعرب بن قحطان وعدنان … والنبي محمد بن عبد الله ، بل بلسان القرآن الكريم. وبعدما آنست اطمئناناً من شكلي وهيئتي وشاربيّ العريضين ولوني الحنطي !! قالت لي : أنا ، يا أخي ، من …. ( وهنا أستميح  القارئ عذراً في عدم ذكر اسم بلد هذه المرأة العربية ، لأن بلدها هو كل بلد عربي ، ولأنها تمثل كل امرأة عربية ) ، وأريد أن أشرب ماءً ، وهؤلاء الموظفون في المقهى لا يعطونني الماء ؛ لأنهم لا يفهمون ، و لأنني لا أحمل عملة هذا البلد … فأنا لا أحمل الدولار الأمريكي…!!!

لم أناقشها … ولم أستجوبها شيمة عمل كل حكامنا وأنظمتنا والموظفين ، فقلت لها بغضب : اتبعيني ، فلحقت هذه المسكينة بي التي رأت منقذاً في سوق الجزارين ، أو في  مسلخ عربي حديث مجهز بأدوات  التخلف والقمع الأمريكية الحديثة ، وبالجلادين الأمريكان المتقنين فن الجزارة والقتل والنهب.

– قلت للعلج الموظف في المقهى بلهجة آمرة ، متعالية ، منتقمة : أعطِ هذه المرأة ماءً . قلت ذلك باللسان العربي المبين , وبصوت مرتفع .

فنظر إليَّ  ذلك العلج مشدوهاً ، وقد فاجأته لهجتي الآمرة ، وصحبة المرأة التي طردها منذ دقائق … فلم يفهم … لم يفهم … فكررت طلبي باللسان الفرنسي – عن قصد وخبث وتحدٍ وتشف وانتقام – فلم يفهم … فطلبت منه بالإنكليزية – وكان قد استعاد توازنه ووعيه من الصدمة – فقال لي : ” موني … موني ( وأخذ يفرك يفرك إبهامه بسبابته بعدما رفع يده إلى متسوى فمه وعينه ) !

فقذفت في وجهه – باستعلاء – دولارات أمريكية معدودة ثمن قارورة ماء عربية … وأعطيتها لهذه الأخت العربية ، وانصرفت أفكر … أفكرُ في عمري الذي قضيته في مماحكات لفظية مع بعض الأصدقاء والمعارف والسياسيين  حول الهُوية العربية، وحول العامل الخارجي  أو الداخلي الذي يمنع قيام الوحدة العربية ، وحول السوق العربية المشتركة ، والتعريفة العربية ، وحرية نقل البضائع والمنتجات  والرساميل، وحرية تنقل العمال العرب ، وحول الجنسية العربية الواحدة ، ونظرية الأواني المستطرقة في الوحدة  ، و فلسفة الوحدة ، والتدرج من الاتحاد إلى الوحدة الكاملة ….الخ !!!

– كنت أقول ، قبل الآن ، بحماسة وبحدّة وبنزق ، وبحسم ” العارف ” : الخليج عربي ، فهو : الخليج العربي.

– وكان بعض الناس يقول : ” الخليج فارسي … فهو :” الخليج الفارسي “.

– وكان بعض الطيبين من البسطاء يقترح حلاً وسطاً بين عروبة الخليج وفارسيته ، فيقول لنا : فلنسمه ” الخليج الإسلامي ” ‍ ما رأيكم ؟  …” الخليج الإسلامي ” مصطلح جميل ، ويشكل قاسماً مشتركاً … وربما قال ” جامعاً مشتركاً ” بين العروبة والفارسية ، بين تين القوميتين اللتين جمعها الإسلام تحت رايته ، ووحدهم بمنهجه ، وصبغهم بصبغته .

ولكننا لم نتفق ، لم يتنازل أيّ منا عن موقفه الحاسم القاطع ‍‍‍ ؛

– فأنا كنت أقول : الخليج العربي ،

– وبعض المشتغلين بالسياسة  كان يقول : “الخليج الفارسي “،

– وبعض الطيبين كان يقول :”  الخليج الإسلامي ” ..

أما اليوم ، فأنا لا أستطيع أن أقول ” الخليج العربي”  ، والآخرون لا يستطيع أحدهم أن يقول ” الخليج الفارسي ” أو ” الخليج الإسلامي “‍‍‍‍‍‍.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى