كتب

بديع صنيج… الحنين إلى دمشق التي كانت

يمزج بديع صنيج في كتابه «روح وريحان» (دار سويد) الحنين بروح المكان، في مسعى لإعادة رسم خريطة مدينة دمشق التاريخية بمزاج الرحّالة، وبمشيئة الأقدام التي تتناهبها الدروب شمالاً وجنوباً. كأن الحرب لم تمزّق الأمكنة، وإذا بالذاكرة وحدها من يعيد تأثيث المكان. هكذا يتعدد الرواة في توثيق تاريخ المدينة بجوامعها وكنائسها ومقابرها وخماراتها، بنفس استقصائي، واتكاء على الوثيقة، ونبرة صحافية، ما يبث الروح مجدداً في جسد أقدم عاصمة مأهولة في العالم: «في كل متر عبق قداسة ما، وحكاية، وفي كل زاوية رواية، وفي كل دكان أو خان أو زقاق، ثمة سرد مختبئ يحتاج إلى تحريك رماده لاكتشاف جمرة جديدة» يقول.

يضع الراوي قدميه في «باب الجابية» أولاً، أحد الأبواب السبعة للمدينة، محاولاً ترميم أطلاله بما كان عليه قبلاً، مستنجداً بأبي البقاء بن عبد الله البدري وما كتبه في «نزهة الأنام في محاسن الشام»، مروراً بالشارع المستقيم الذي ينتهي بباب شرقي، في مرآة تعكس صورتي أبي عبيدة الجراح الذي منح أهالي باب الجابية الأمان، لحظة دخوله المدينة، وخالد بن الوليد الذي دخل باب شرقي بالسيف. هنا تتمازج الروائح والألوان المنبعثة من سوق مدحت باشا، وصولاً إلى الكنيسة المريمية، ثم باب شرقي. شارع يضج بالحياة منذ القرن الأول قبل الميلاد إلى اليوم، بناه الرومان، وفي وثيقة أخرى، بناه اليونانيون بقصد ربط غرب المدينة بشرقها، أو جهة الشمس و«زيوس» من أجل أن يحفظا هذه المدينة. ضجيج الأحياء، وصمت الموتى، معادلة تصوغها مقبرة «باب صغير» أقدم مقبرة في العالم، يرقد داخل أسوارها ابن عساكر، ومعاوية بن أبي سفيان، والفارابي، وبعض آل البيت، وشكري القوتلي، ونزار قباني. شواهد وأضرحة ومقامات تشكّل تاريخاً لأعلام المدينة، ومرآة لطراز معماري خاص. ويتابع هذا المشّاء الرحلة صعوداً إلى جبل قاسيون، وصولاً إلى حي المهاجرين، الذي سكنه المهاجرون من بلدانٍ أخرى، وكان ثمن المتر «متليك عثماني»، قبل أن يصبح أحد الأحياء المزدحمة والأليفة، محتضناً دمشق بأكملها. لا تكتمل صورة المدينة، من دون أن يتوقّف الراوي عند «ساحة المرجة» مركز المدينة وقاعها وصخبها، إذ لا تكفي صورة تذكارية أمام النصب الذي أقامه الوالي العثماني حسين ناظم باشا وسط الساحة، وشهد إعدام شهداء أيار «مايو» عام 1916 بأمر من جمال باشا السفّاح، أو إعدام أبطال الثورة السورية الكبرى بأمر من سلطة الانتداب الفرنسي (1925). فمن هذه الساحة انطلقت أول رحلة للترامواي للربط بين أحياء دمشق، مطلع القرن العشرين، كما عرفت هذه الساحة واحدة من أوائل دور السينما في دمشق، وهي سينما «زهرة دمشق» (1918) التي تشتمل على مقهى ومسرح، وقد عملت فيه بديعة مصابني كنادلة قبل أن تشتهر كراقصة وممثلة. يذكر الدمشقيون حدثاً لا ينسى، وهو عرض فيلم «الوردة البيضاء» لمحمد عبد الوهاب، إلى أن تعرّضت الصالة إلى حريق في أواخر العشرينيات من القرن المنصرم.

هذه النزهات الخاطفة للساحة العريقة، لم تغص عميقاً في روح المكان وأسراره، إذ بقي نصّ القاع على السطح، وإذا به نصّ عبور أكثر منه نصّ إقامة، فيما يستعيد حي الميدان روحه بوصفه سوقاً للأطعمة والحلويات الدمشقية الشعبية، بعدما كان ميداناً لسباق الخيل في عهد الوليد بن عبد الملك، ومخازن للحبوب كنقطة ربط بين حوران ودمشق. فهذا الطريق السلطاني كان بوابة دمشق نحو فلسطين ومصر وبالعكس، وقد عبره يوماً الإمبراطور الألماني غليوم الثاني في رحلته من القدس إلى دمشق، وطريق الحاج إلى الحجاز. الميدان باسم آخر هو هوية جمعية للسوريين في هجراتهم المتعاقبة من مدنهم الأصلية إلى قلب العاصمة. بعد مسير ثلاثة كيلومترات في هذا الحي العتيق، ارتأى الراوي وقفة في «خمارة أبو جورج» أقدم خمارات حي باب شرقي التي تعاقبت عليها آلاف الوجوه، وتركت ذكرياتها وتواقيعها على جدران الحانة الضيّقة بما يشبه كولاجاً جماعياً: «لم تعد مساحة خرم إبرة لتكتب شيئاً.. وما عليك سوى أن تتأمل وتتمعن في معنى الزمن، وكيفية أفول عقد من الفقد واليأس والبكاء والمرارة» يقول.

في نزهة أخرى، يتوقف بديع صنيج عند سوق «باب سريجة»، وهي سوق شعبية للخضروات والفاكهة واللحوم، تتألق بمئة لون ولون، بمزيج من ألوان ماتيس، وروائح عطر زوسكيند، وسينما لويس بونويل، وصهيل خيول محاربين قدماء. هكذا يتناوب المدينة المقدّس والأسطوري ولهاث الحياة اليومية في إيقاعات متفاوتة، تبعاً للمكان: من هنا عبر بولس الرسول في رحلاته التبشيرية لتُسجل «كنيسة حنانيا» في قائمة اليونسكو للتراث العالمي كواحدة من أقدم كنائس دمشق. وفي باب توما، سيهتف صوت محمود درويش قائلاَ: «في دمشق تسير السماء على الطرقات القديمة.. حافيةً حافية، فما حاجة الشعراء إلى الوحي والوزن والقافية». في الطريق نفسه، على كتف الجامع الأموي، سنصادف «مقهى النوفرة» أقدم المقاهي الشعبية في المدينة، إذ لن تكتمل النزهة في دمشق القديمة من دون زيارة هذا المقهى الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى نحو 250 سنة، بصحبة «الحكواتي» وهو يستعيد سير الأبطال، من عنترة إلى الزير سالم، كما كان المقهى مكاناً لعروض خيال الظل. لا تكتفي دمشق بتأجيج الحواس، وإنما تبطن بعداً صوفياً، وتالياً لا تكتمل الرحلة إلا بزيارة «مقام ابن عربي» صاحب «الفتوحات المكية»، و«ترجمان الأشواق»، فههنا تتشبع الأرواح بقدسية المكان وروحانيته طوال 800 سنة متواصلة من النذور والكرامات وحلقات الذكر. على المقلب الآخر، سنتوقف عند «شارع شيكاغو»، الشارع الذي كتب تاريخاً موازياً للمدينة بأجساد الراقصات والمغنيات، ومعارك الملاهي الليلية، قبل أن يأفل في منتصف ستينيات القرن المنصرم، ويتحوّل إلى شارع لبيع معدات التصوير، كأن ما بقي منه مجرد صور بالأبيض والأسود وحسب.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى