كتب

بروس دي. جونز: محيطات العالم… أمّ المعارك!

صدر كتاب «لحكم البحار: السيطرة على محيطات العالم تحدّد مصير القوى العظمى» (سكريبنر ـ 2021) قبل الإعلان عن صفقة الغواصات الذريّة بين الولايات المتحدة وأستراليا مقابل تخلّي الأخيرة عن اتفاقية سابقة مع فرنسا، مهّدت الطريق أمام تحالف (بروتستانتي) ثلاثي يُعرف باسم AUKUS اختصاراً للأحرف الأولى من الدول الثلاث. هدف هذا التحالف العسكري بلا شك تقوية سيطرة واشنطن على المحيطين الهادئ والهندي، ومحاصرة الصين وروسيا، المحاصرة بحرياً أصلاً.

في عام 2009، قدّمت الصين مطالبة شاملة بامتداد ضخم لبحر الصين الجنوبي، مؤكّدة «حقها التاريخي» في المياه التي تُطالب بها دول أخرى عدة، وتُهيمن عليها البحرية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد كانت خطوة أنذرت بمنافسة متصاعدة بين الولايات المتحدة والقوة الصاعدة للصين. منافسة تتم أولاً وقبل أي شيء في المياه الآسيوية المتنازع عليها.

في كتابه هذا، يقودنا المؤلّف بروس دي. جونز في رحلة عبر الموانئ الحديثة العظيمة والقواعد البحرية في هذا العصر؛ من موانئ الحاويات الشاسعة في شنغهاي وهونغ كونغ إلى القاعدة البحريّة الحيوية للأسطول الأميركي السابع في هاواي وإلى الترتيبات الأمنية المتطوّرة في ميناء نيويورك. على طول الطريق، يوضح الكاتب كيفية عمل التجارة العالمية، وأننا في خضم سباق تسلح بحري عالمي، وسبب اعتبار المحيطات شديدة الأهمية لموقف أميركا.

يبدأ المؤلف بفحص تاريخي شامل للعلاقة بين التجارة العالمية والقوة البحرية وصعود الهيمنة البحرية مثل بريطانيا والولايات المتحدة. ثم يشرح للقارئ سبب أهمية حرية البحار والشحن العالمي الآمن، ليس فقط في الحفاظ على الاقتصاد الأميركي لكن للنظام الدولي بأكمله.

التوترات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي وحجم التجارة العالمية القائمة على المواصلات البحرية واكتشاف الطاقة جعلت الكاتب يُدرك مدى أهمية المعاملات في محيطات العالم وعبرها إلى نسيج الأوقات المتغيرة. فالكاتب الذي هو أكاديمي ومؤلف ومحلّل سياسات، ومدير برنامج السياسة الخارجية ومدير مشروع النظام الدولي والاستراتيجية في «معهد بروكينغز»، وهو أيضاً أستاذ استشاري في «معهد فريمان سبوجلي» في «جامعة ستانفورد» ورئيس «المجلس الاستشاري لمركز التعاون الدولي» في جامعة نيويورك، يبحث في كتابه في الصراع/ المنافسة لامتلاك القوة السياسية والاقتصادية بالعلاقة مع محيطات العالم ومن منظورها. يذكر العمل حقائق عدة منها حقيقة أنّ محيطات العالم أضحت بسرعة أهم منطقة مواجهة بين اللاعبين العسكريّين الكبار في العالم أي الولايات المتحدة والصين قبل أي شيء، لكن أيضاً روسيا واليابان والهند وغيرها. والطريقة التي تُدير بها هذه القوى تنافسها البحري، ستشكل نصف القرن المقبل. ثانياً: صحيح أنّ العولمة تعني لدى القرّاء تدفقات الطائرات والمعلومات عالية التقنية، لكنّ الحقيقة أنّ أكثر من 85% من التجارة العالمية هي دالة على التجارة البحرية.

يستدرك الكاتب بالقول إنّ مؤلّفه لا يتعلق بالمحيطات بقدر ما هو عن المحيطات التي هي الشاشة التي تظهر عليها ديناميكيات عصرنا، وهي الخلفية التي تظهر عليها ظلال التاريخ. إنها عدسة يمكن من خلالها مشاهدة الصراع الأساس، أي ما يمكن وصفه بالجغرافيا السياسية للعولمة.

والمحيطات أيضاً استعارة للطريقة التي تتدهور بها أنماط الشؤون العالمية وتنتشر عبر حياتنا. غالباً ما يُروى التاريخ على أنه سلسلة من الأحداث، متسلسلة في الزمان والمكان، يقول الكاتب، لكنه، من منظور المؤلف، يتحرك مثل المحيط نفسه، مع التيارات التي تمتد عبر الأرفف القارية وأنماط الأمواج التي تتكشف بمرور الوقت، وتصل إلى ما هو أبعد من شواطئها الأصلية. ففي بعض الأحيان، يتصرف التاريخ مثل تسونامي، حيث يرسل الزلزال في منطقة ما موجة صدمة عبر محيط مجاور، بالكاد تتم ملاحظته أثناء تموجاته عبر المياه. وفي النهاية يشعر به الشاطئ البعيد أولاً من خلال انحسار المد، قبل تصادم المد والجزر الهائل على الأرض، محدثاً الدمار. وبينما نشهد النطاق الملحمي للتجارة العالمية الحديثة، والتوترات المتصاعدة للقوة البحرية، ودراما تغير المناخ التي تحدث في المحيطات الدافئة، فمن الصعب مقاومة الإحساس بأننا الآن في هذه اللحظة السابقة لهذا التسونامي.

يقضي المؤلف وقتاً في مناقشة توسّع البحرية الصينية من قوة دفاع ساحلية إلى بحرية حقيقيّة في المياه الزرقاء قادرة على العمل في أنحاء العالم جميعاً وتحدي أسبقية البحرية الأميركية، وهو على الأرجح أهم تحول استراتيجي في ميزان القوى العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولأن الصين أصبحت أكثر حزماً وتوسّع وجودها من خلال اتفاقيات تأسيس جادة في الشرق الأوسط وأفريقيا، فلا شك في نيّتها أن تصبح القوة البحرية والشحن الرئيسية في العالم، وقادرة على الدفاع بقوة عن مصالحها وطموحاتها الإقليمية، حتى على حساب دول آسيوية أخرى. يُواصل الكاتب تحليلاته بالقول إنّه من المرجح أن تكون منطقة القطب الشمالي منطقةً أخرى من الخلاف البحري في المستقبل، إذ تواصل روسيا حشدها العسكري على طول الساحل السيبيري وفي المياه التي تقترب من القطب الشمالي والقطب الجليدي. يمكن أن تؤدي إمكانية وجود طريق بحري من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلسي عبر هذا الطريق الشمالي إلى تعزيز التجارة البحرية بشكل كبير من خلال القضاء على الطريق الطويل حول المحيط الهندي سواء عبر قناة السويس أو حول أفريقيا.

الموضوع الأخير الذي تم استكشافه هو سباق التسلح البحري المتزايد، مدفوعاً بالمنافسة على موارد أعماق البحار والآثار المحتملة لتغيّر المناخ. وينطبق هذا على نحو خاص على منطقة القطب الشمالي حيث يمكن للتغيرات في مدى توسع الجليد القطبي أن تفتح طريقاً للشحن التجاري الشمالي الذي طال انتظاره من آسيا إلى أوروبا، متجاوزاً الحاجة إلى عبور طويل عبر المحيط الهندي وحول أفريقيا أو عبر قناة السويس.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى