كتب

بسمة عبد العزيز: الفرع الذي يسقط شجرةً كاملةً

في أول رواية واقعية بعد روايات عدّة تُصنف بالسياسيّة مثل «الطابور» (دار التنوير ـــ 2013)، و«هنا بدن» (دار المحروسة ــ 2018)، تعرض بسمة عبد العزيز في «أعوام التوتة» (دار المحروسة) فكرة تحرّر أبطالها من المصائر المقرّرة عليهم سلفاً. تختلف مصائر أبطال الرواية، لكن يجمعهم شيء واحد هو التحرر. تبدأ الرواية بسرد أحداث خادمة تُسمى «ناجحة» هي بطلة العمل التي تدور بقية الشخصيات حولها. كأن كل من حولها يفاجأ بأنّ الخادمة التي يتعاملون معها بصفتها بلا رغبات ولا مطامع دنيوية، تطمح لأنّ تحبّ. يصبح الحب هذا مرتبطاً بفكرة التحرر. يدفعها الحبّ إلى التحرر من القيود التي تفرضها عليها «سيّدتها»، التي تطعمها في مواعيد محدّدة، وتخصّص لها أدوات وحدها للطعام، بل أيضاً تحدّد لها جرعة معينة من علاج ما.

تهرب منها في لحظة ما وتذهب إلى آخرين يعاملونها على أنها إنسانة حرة. ربما من ملامح الرواية هو ارتباط التحرر بشعور الحب، بأنّك لن تستطيع التحرر من أي قيد إذا لم تحب، أو على الأقل إذا لم تحبّ نفسك.

يبدأ الفصل الأول على لسان الراوي هكذا: «جلس الجمعُ مُتأهباً، يترقب كلمة تخرج من أي فم، فيما جالت «ناجحة» بين الوجوه بنظرتها المعهودة، لكنها لم تُبد هذه المرة في انتظار أمرٍ وشيك الحدوث، ولا شعر أحد أنها تتورع شيئاً من الحاضرين. لم تكن «ناجحة» شديدة المرض، لكنّ المحيطين بها عرفوا دوماً أنها ليست مثلهم، وأن لا طائل من محاولة التعامل معها على أنها خادمة عادية كبقية الخادمات، في البداية تبادلوا حولها الأحاديث: هذه البنت بلهاء لا تفهم حتى السلام».

تدور الرواية في إحدى العمارات في الحي القاهري الشهير حي «مصر الجديدة»، يعرض كل التفاصيل حول الأشخاص في الرواية. ثمة انتقال ما هو أن الرواية ليست فقط رواية قائمة على فكرة الخيال، بل تشتبك مع الواقع. تعرض صاحبة «الطابور» تفاصيل الملابس التي يرتديها كل الأشخاص المذكورين أو طريقة تعاملهم مع «ناجحة» الخادمة، كأنها مرآة تعكس لنا كيف يفكر من حولها بها، كأن المرآة وظيفتها التحليل النفسي للأشخاص. لكنّ دورها لا ينحصر في ذلك، إذ إنّها أيضاً تدفعهم للتحرّر خلال عملية تحررها. يراها الجميع بطلةً ويحسدونها لأنها انفكّت من قبضة المرأة التي تعمل عندها، كأنّها بما فعلته تضعهم أمام رغباتهم في التحرر أيضاً. منهم من يريد أن يتحرر من المكانة الاجتماعية التي ولد فيها، ومنهم من يريد أن يترك عمله ليشعر بالتحرر. وهناك من يريد أن يتحرر من سلطة الأبوّة، ومن يريد أن يتحرر من سلطة الأمومة. كأن كل مصائر الأبطال تريد أن تتحرر من سلطة لا تظهر لمن يقرأ الآلية التي تعمل بها، لكنها حاضرة.

لكنّ مصير «ناجحة» يشبه رحلة بطل فيلم «أبيض» للمخرج البولندي كريستوف كيسلوفسكي (1941-1996). كلاهما يتحرر عن طريق واحد هو الحب، لكن في الرحلة نفسها ثمة تشابهات. كلاهما لا يعثر على اللغة المناسبة التي تساعده في الإعلان عن نفسه. يبدأ تحرر بطل كيسلوفسكي عندما يبدأ يحبّ نفسه بعد خروجه من علاقة عاطفية فاشلة. أما بالنسبة إلى «ناجحة»، فلم ترَ التحرّر إلا عبر عينَي حبيبها. الحب كان عاملاً مشتركاً لفكرة التحرر بالنسبة إلى الاثنين، لكن في نهاية قصة فيلم كيسلوفسكي، يتضح أن البطل لا يزال لم يتحرر تحرراً كاملاً كـ«ناجحة» بطلة «أعوام التوتة». عندما تجتمع «ناجحة» بسكّان العمارة، لا تنتظر منهم شيئاً. فقط تطلب مستحقاتها من المرأة التي عملت عندها، وتتركهم مذهولين.

بالعودة إلى اللغة، ربما ما يجعل العمل أكثر قرباً إلى الواقع هو أنّ أبطاله يتحدّثون بلغة عامية بدلاً من الفصحى في بعض المواضع. فاللجوء إلى الفصحى على لسان أشخاص يتخيّلهم القارئ بأنّهم أشخاص قابلهم أو عاصر أحداثاً مشابهة لما عايشوه، أمر يعطّل بناء خيال منتظم، أو يفقد البناء سلاسة تدرجه.

وربما يدفع العمل القارئ للسؤال عمّا إن كان السياق مناسباً للكتابة بالفصحى، أم أن هناك بعض السياقات التي يلزمها لغة عامية. تنتهي الرواية بمشهد موت «مدام أليفة» التي كانت «ناجحة» تخدمها. لعلّ الرابط المتعلق أيضاً بفكرة التحرر التي يدور حولها العمل، أن عملية التحرر ترتبط دوماً بالحب وبالموت.

بالحب يتحرر الجميع، وبالموت يتلقّى المرء ضربة تمنعه من التحرر. الموت التي ينتهي به العمل يُصور بأن شجرة التوت الزاهرة دوماً أصبحت قاتمة وكئيبة لحظة الموت. وربما يحدث أحياناً أنّ اهتزاز فرع «ناجحة» أو سقوطه/ تحرره، يكفي لسقوط شجرة كاملة. رغبة التحرّر تكمن في ذوات الجميع، لكن ما يدفع هذه الرغبة لتنتقل من مجرد رغبة إلى فعل هو الحب والموت المتضادان اللذان يشكّلان جذور الحياة كلها.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى