بن لادن يسير على قدميه.. في الشام والعراق (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

في 5/5/2011 قال باراك أوباما: «بن لادن مات ولن يسير مرة أخرى على الأرض». صح. لكن أتباعه يسيرون. ورثته ينتشرون. سلالته القاعدية تزحف في كل الاتجاهات. نصف العراق تحت أقدام خلفاء بن لادن. شمال شرق سوريا مرتع لقواته. آبار النفط رصيد لا ينضب لـ «فتوحات» «داعش». حدود الدولة (دولتهم في العراق والشام) حتى الأمس فقط، تساوي سبعة أضعاف مساحة لبنان. تمتد، حتى الأمس فقط، من حلب وجرابلس إلى الحسكة والرقة، إلى تخوم دير الزور والبوكمال، إلى نينوى الكبرى ومحافظة صلاح الدين حتى الفلوجة الواقعة على تخوم العاصمة بغداد… المدن تسقط أمام غزوة «داعش» كورق الخريف، الموصل، عقدة المطامع الغربية والإقليمية والمحلية، سقطت بلمح أيام ثلاثة. «جيش العراق العظيم»، هرول هارباً. هذا «فتح» ينتسب إلى بن لادن.
«لن يسير بن لادن مرة أخرى على الأرض». غلط. ها هو يسير علناً. لم يعد في مخبأ. خرج من مغاور طورا بورا وجبال أفغانستان وملاجئ باكستان. انه في نيجيريا. «باكوحرام» إليه تنتسب. من فكره تنهل. من تكفيره تستوحي. تكتسح يوما بعد يوم أرضا جديدة، مطبقة تعاليم محمد يوسف أحد تلامذة بن لادن وأيمن الظواهري. يوسف هذا قتل، ولكنه ما زال يسير على قدميه ويتقدم بقيادة خليفته أبو بكر شيكو. إمارته من حدود التشاد إلى حدود النيجر وحدود الكاميرون. يسيطر بنسب متفاوتة على إقليم بورنو ومدن كثيرة، منها مايدوغري وشيبوك (حيث اختطف 200 تلميذة ترتاد مدارس غير إسلامية، وهدد ببيعهن). شمال نيجيريا الشرقي تحت سلطة «باكو حرام»، ومنها تنطلق لتنفذ هجماتها ضد المدنيين والعسكريين. انهم أشد تعصباً وفتكاً من بن لادن وأركانه المنتشرين في مالي وجنوب غرب الجزائر، و«أنصار الشريعة» في تونس، وعصابات «القاعدة» في انحاء ليبيا، حيث استحوذت على ترسانة القذافي.
«لن يسير بن لادن مرة أخرى على الأرض»… فضيحة، تكاد الأرض العربية تصبح ممنوعة علينا، نحن المواطنين المؤمنين بالحياة والحرية والجمال. والخ… مما حلمنا به ذات قرن. القاعدة تبيع عقيدة الموت وتبشر المؤمنين بفضائل القتل، وتنجح وتفوز.
«داعش»، لم تعد تنظيماً. صارت دولة تتمدد، لاغية الحدود (حدود سايكس بيكو) وحدود الطبيعة. لا وطن لها. لا حدود تقف أمامها. لديها عقيدة دينية وايديولوجية حديدية، وكفاءة العنف في إقناع البائسين والمعدمين والطفار والفقراء والخلاصيين، بأن الموت امتياز، وأن الشهادة مكسب وأن قتال الكفار نيل للجائزة الإلهية في النعيم. «حربهم المقدسة»، ليست ضد المسيحيين واليهود والبيض والشيعة «الروافض». انهم أعداء كل من ليس معهم ومثلهم ومنتظم في صفوفهم. فلا يتورعون عن قتال المسلمين السنة وقتلهم وإخراجهم من ديارهم عنوة وغصباً واغتصاباً.
مات بن لادن، ولكن «القاعدة» لم تمت. الأميركيون يظنون أن إسقاط الرأس، يقطع أوصال الجسد. غلط، بن لادن ليس أول من قتل ولا هو الأخير. سلسلة طويلة من الأسماء سبقته أو لحقت به. من المؤسسين والمنظرين إلى هذه اللحظة، لم تتوقف الإعدامات والاغتيالات. حسن البنا اغتيل في شباط 1949. سيد قطب أعدم في آب 1966. صالح سرِّية الفلسطيني اعدم في العام 1975، الشيخ عبد الله عزام، الزعيم الروحي لـ «الأفغان العرب»، والملهم الرئيسي لأسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة»، اغتيل في العام 1989 في باكستان، أبو مصعب السوري (الحلبي) قبع زماناً في السجون الأميركية، ويعتبر من الأركان المؤسسين لتنظيم «القاعدة». خالد الشيخ محمد اعتقل في باكستان واقتيد إلى أميركا. أبو حفص المصري، أحد مؤسسي «القاعدة» الأوائل، قتله الأميركيون في شباط 2001. مصطفى أبو اليزيد، اغتيل بواسطة صاروخ أميركي في أيار 2010. أبو مصعب الزرقاوي قتل في غارة أميركية في بعقوبة (العراق) في حزيران 2006… رؤوس كثيرة قتلت، ولا يزال أتباعها يتكاثرون ويسيرون على وجه الأرض…
متى يفهم العالم، أن القوة العسكرية وحدها ليست حلاً. تنظيم «داعش» ليس حالة عسكرية مستولدة من نص ديني. هناك إصرار على التعامل مع هذه «القوة الفتاكة»، بقوة أشد فتكاً… نتائج هذه المعارك أفضت إلى فوز «القاعدة» ميدانياً، وانتشارها جغرافياً وبلوغ تهديدها، مشرقاً بكامله. ها هو العالم يستيقظ بعد سقوط الموصل، على شرق أوسط «قاعدي». يا للهول!
هل فات الأوان؟ ربما! ومع ذلك، لا مفر من استعادة الأسئلة الأولى: لماذا ابتليت هذه المنطقة بالمنظمات التكفيرية؟ من المسؤول عن بذرتها الأولى ومنشأها الأول؟ هل المشكلة في النص الديني وتأويلاته أم في الواقع السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي؟
بعض الظن ليس إثما، بل هو الطريق إلى الصح. لم يولد الإسلام السياسي من النص، بل من أرض الواقع. ولم يولد الاسلام الجهادي من متون الآيات واجتهاداتها. الظلم وانسداد الأفق وانعدام الأمل، سبب أول. الطغيان والاحتلال والاستيطان والاستعمار، سبب أول. الاستبداد والفساد والاقصاء، سبب أول. التمييز الاقتصادي النيوليبرالي، الشقيق الأكبر للاستغلال الرأسمالي، سبب أول. انعدام التنمية وحرمان المحرومين من فرص العدالة الاجتماعية، سبب أول. أحزمة البؤس المكتظة بالبؤساء والمنبوذين الذين يشاهدون من بعيد نعيم المحظوظين والفاسدين والمفسدين والظالمين، هو سبب أول.
كل هذه الأسباب، هي سبب أول. ولد الاسلام السياسي رداً على، وليس اجتهاداً من. الواقع السياسي الاجتماعي القاسي هو «الوحي» الأول. الظلم والاستبداد وانعدام الحلول، بالتي هي أحسن، هي النص الأول.
لم يبدأ الاسلام السياسي من ترف تأملي. التأمل يفضي إلى المزيد من الاستمتاع الروحي. البحث عن جواب لحالة البؤس الإنساني، إما يكون من عناصر الواقع، أو من عناصر ما فوق الواقع: الدين، الفكر، الايديولوجيا. اللجوء إلى مبدأ «الحاكمية»، كان منفذاً للخروج على «الحاكمية» المدنية الظالمة والمستهترة التابعة للغرب. المودودي قرن هذه النظرة بالعنف. أسس لجيل من الإسلاميين، أفضى إلى إسلام تكفيري عنفي مدمر… الفارق بين العنف الثوري والعنف الديني هو في الوسائل والغايات، لا في الأسباب.
نموذج «باكو حرام» فصيح جداً. نيجيريا أكبر دولة في القارة الافريقية، تعوم على نفط غزير، وأراض ثرية بالخضرة، ومساحة جغرافية تؤهلها لأن تكون دولة متقدمة وحديثة بجدارة.
بلد الثروة هذا، هو بلد الإفقار للفقراء والإثراء للأثرياء. حيث «باكو حرام»، بؤس لا يوصف. ظلم وإهمال وقمع بدرجات مسعورة. السلطات في نيجيريا تخون شعبها كل يوم. «مجموعة الأزمات الدولية» تحدد الأسباب: «النفط يسيل تحت أقدام المسؤولين وأعوانهم. لم تتحسن نوعية حياة النيجيريين… إنهم ضحايا النعمة النفطية. النفط مسؤول عن تعميم أوسع قاعدة للفساد. يشترك فيها قادة محليون، مع مصارف وشركات عالمية عملاقة. الزراعة، عمود الاقتصاد النيجيري قبل اندلاع النفط، تعيش على حافة الانهيار. هذا الظلم، دفع الفقراء في مناطق الشمال، إلى الانتظام بجمعيات حاضنة، إثنياً ولغوياً ودينياً. الجمعيات الدينية في الشمال النيجيري مدعومة من الوهابية السعودية، عقيدة ومالاً.
«باكو حرام»، هي من نتاج هذا الواقع. انتسابهم لبن لادن، دلهم عليه البؤس الذي توفره سياسات الظلم والاضطهاد والافقار… «باكو حرام» هي الملجأ الخلاصي، الذي يتربى فيه النيجيري على الكراهية والحقد ورغبة بالاستئصال، عبر شيطنة كل من ليس يشبهه ومن ليس مثله. السلطة كلها حرام والمجتمع جاهلي والفكر كفر و«الكتاب حرام».
الاثم المادي هو السبب الأول والمحرض الأول، لارتكاب اثم التكفير العدمي، الذي يستمد من الحرف الديني، بعد قتل روحه، قوة محاربة الظلم بظلم أشد. بربريتان تتنافسان وتتصارعان، واحدة محظية دوليا، والثانية محظية شعبوياً.
لنترك نيجيريا في قارتها. لنسأل عن وجوه الشبه الكثيرة بينها وبيننا. لديها أسباب لنشأة «باكو حرام»، وهي إحدى التنظيمات الأكثر جنوناً وانحرافاً. أليس لدينا عشرات الأسباب لنشوء «القاعدة» وشقيقاتها؟ لا يكفي ان نقول ما تأكد بالوثائق، بأن غاسيار وانبرغر أول منظري الجهاد في أفغانستان. انه كذلك. استعان ببيئة دينية حاضنة للوهابية، كي يقاتل بها السوفيات. الوهابية، ليست محمد عبد الوهاب وحده. وحيداً، ما كان باستطاعته أن يبيع أفكاره. حاول في المرحلة الأولى نشر معتقده وفشل. فتش عن حليف قوي فوجده في سعود أمير الدرعية والاحساء، فأصغى إليه مستفيداً من عقيدته في بناء وتوسيع قاعدة سلطته. زواج الايديولوجيا والسلطة مفيد للسلطة أولاً. الايديولوجيا تصير ملحقاً بالسلطة فقط. وهكذا صار. السعودية، بسلطتها، ليست وهابية سلوكاً. ولكنها تخضع مجتمعها بالوهابية. ومن هذا المزج يمكن تفسير القول: «الظواهري هو النسخة الوهابية المصرية لبن لادن الذي يمثل الوهابية السعودية». الطامة الكبرى أن الإرهاب هذا، محتضن وموظف ومشرعن ومعقدن وممول، من دولة تغذيه بالعقيدة والنفط. وهي حليف قوي لدولة تترأس الدعوة للحرب على الارهاب.
كيف كانت أوضاع أفغانستان؟ ومن فجر المجتمع الأفغاني؟ من استدرج السوفيات فوقعوا في «الفخ الفيتنامي» الذي وقع فيه الأميركيون؟ من عاث تقطيعاً لأوصال بلاد من أعراق متعددة، تعايشت أزمنة؟ من فتّت أفغانستان وسلّمها لأمراء الحرب، ولأمراء الجهاد المستورد من بلدان شتى، بحجة الدفاع عن الله والدين في مواجهة الإلحاد والكفر؟ أي كذب بل أية جريمة فظيعة ارتكبت؟ الإسلام براء مما فعلوه به ونكلوا بواسطته ببلاد كانت درّة آسيوية بهية؟ هل نحن على الطريق إلى النموذج الأفغاني؟
العراق، ما كان به نظام استبدادي، علماني بانتهازية، وحدوي بقطرية مزايدة، حزبي بعسكريتاري، تبرع لخوض حروب أمراء الخليج ضد إيران. ولما تخلّى عنه «الأخوة العرب» حاول أن يسطو على الكويت، كل الكويت، وكان ما كان: حرب فحصار فبؤس فجوع فقهر وإذلال وموت. وكل ذلك محصّن بنظام استبدادي فاسد، فوق طاقة أي بشري على احتماله… اسقط العراق بحجة كاذبة. هي أفظع جرائم أميركا في القرن الواحد والعشرين. حُلّ جيشه وفكك شعبه… وها هي «القاعدة» أحد نتاجات هذه الانهيارات. بعض قادة «داعش» كانوا ضباطا في جيش النظام والبعث.
سوريا، ما كان بها؟ نظام وحدوي علماني اشتراكي تقدمي، لم يمارس منه غير التسلط الفظ، منحته الممانعة ودعمه للمقاومة، حماية، سقطت مع طلائع الربيع العربي. داعش المستوردة وجدت أرضاً مناسبة ففتحتها.
الشبه النيجيري قائم مع سوريا. فساد وعسكرة وأمن وتخريب وانعدام للحرية وفقدان للتنمية، وانفتاح حازت فيه طبقة رجال الأعمال المقربين، قصب الإثراء غير المشروع. مناطق فقيرة افقرت، بلا حرية ولا عدالة ولا ديموقراطية.
أمس استفاق العالم على دولة «داعش» في العراق والشام. استنفرت أميركا صوتها. الغرب رفع عقيرته. أركان العراق تهتز. اعلان نفير شامل لمقاومة «داعش». سوريا منهكة، لا حول ولا. مصر تخوض حرب إلغاء «الاخوان» ومعارك «القاعدة» في سيناء.
العالم، لم يشهد بعد مثيلاً لما حصل في العراق وسوريا. ولا يبدو أنه يملك غير السلاح لقتالها، من بعيد، تاركاً العراق وسوريا لمصيرهما… مصير لا يبشر بنهاية سريعة وحسم مضمون.
إننا على مقربة من العدم العربي. هذا ما صنعته حروب أميركا فينا. هذا ما صنعته اسرائيل في فلسطين. هذا ما صنعه الاستبداد العربي. هذا ما صنعته الوهابية السعودية المصدّرة إلى… هذا زمن الردة التام… والله حرام.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى