بيجان شاهين يؤكد على قيم التسامح في مواجهة التعصب والاضطهاد الديني

دافع المفكر التركي بيجان شاهين في كتابه “التسامح من قِيَم الليبرالية” دفاعا رفيعا عن التسامح كعلاج للنزاع الاجتماعي الناتج عن الاختلاف، وخاض في أربعة أسباب بارزة للتسامح، وهي الشكوكية، والحصافة، والاستقلالية، والضمير، من خلال أعمال أربع ليبراليين رواد وهم: ميشيل دي مونتين، وجون لوك، وجون ستيوارت ميل، وبيير بايل.

لافتا إلى أنه على الرغم من إمكانية تقصّي جذور التسامح في أعمال أرسطو ضمن ردّه على النزاع الذي دار بين أنصار الديمقراطية وأنصار الأوليغاركية في الدولة المَدَينة (polis)، فإن المفهوم المتكامل للتسامح لم يظهر إلا كردّ على النزاع الديني الذي شهدتْه أوروبا مع بداية العصر الحديث في القرن السادس عشر.

وقد أشارت سوزان ميندوس إلى العلاقة بين بروز التسامح والمعارضة الدينية، مؤكدة “إن قصّة التسامح هي – في أغلبها – قصّة المعركة ضدّ التعصّب والاضطهاد الديني، وهذا السياق هو الذي تشكّلت فيه – أولاً – الكثير من النقاط المفاهيمية المهمّة حول طبيعة التسامح ومبرّراته”.

ورأى بيجان شاهين في كتابه الصادر عن دار المتوسط بترجمة علي الحارس، ومراجعة د. رشيد أوراز أن تاريخ التسامح يمكن النظر إليه باعتباره تاريخاً لليبرالية، وأن أحد الجذور الأيديولوجية لليبرالية يمكن العثور عليها ضمن صراع البحث عن حلّ للنزاع الديني.

وأضاف “السؤال الذي طرحه المفكّرون الليبراليون كان: “كيف يمكن الوقاية من نشوب النزاع، بسبب التغاير الديني”. وفي مرحلة لاحقة، وبعد عدم الاقتصار على النزاع الديني، وإنما شمول النزاعات الأخرى أيضاً التي تَنتج عن اختلافات أخرى في المجتمعات المعاصرة، قامت الليبرالية بتوسيع نطاق مفهوم التسامح؛ وعلى هذا الأساس، يمكن النظر إلى النظرية الليبرالية باعتبارها الذروة التي وصلت إليها الإجابة/ الإجابات المقدّمة لسؤال محدّد: “كيف يمكن تحقيق التعايش السِّلْمي في المجتمع بين الاختلافات الفردية، والدينية، والإثنية، والجنسانية، والجندرية، والثقافية؟” ومفهوم التسامح يتبوّأ موقعاً سامياً في الإجابة الليبرالية التي تقدّمها لهذا السؤال المحدّد، وذلك إلى الحدّ الذي يمكننا أن نقول عنه بلسان مارك ميرسر: “أن تعيش على نحو متسامح، يعني أن تُعبّر عن هوية ليبرالية”.

أوضح أن ليست هنالك إجابة وحيدة فقط للسؤال السابق، وإنما توجد إجابات مختلفة؛ هنالك تنوّع في وجهات نظر الليبراليين إزاء أسس التسامح، والكتاب غطى أربع إجابات رئيسة: التسامح القائم على الشكوكية، والتسامح القائم على الحصافة، والتسامح القائم على الاستقلالية، والتسامح القائم على الضمير؛ وعرض هذه المقاربات الثلاث استناداً إلى ما كتبه أربعة من كبار المفكّرين الليبراليين، وهم، على الترتيب: ميشيل دي مونتين، وجون لوك، وجون ستيوارت ميل، وبيير بايل.

انطلاقا من هذه الرؤية وضع بيجان شاهين في الفصل الأول الليبرالية على طاولة التحليل المفاهيمي، ناقش ما تمثّله، وما لا تمثّله، وركّز في الفصل الثاني على الدفاع عن التسامح بالاستناد إلى (الشكوكية)؛ وقال “عندما يستند التسامح إلى الشكوكية، فإن الشخص المتسامح – ربّما – يؤمن بأنه لا يمتلك أي مبرّر عقلاني لتبرير التعامل بتعصّب مع شخص آخر، فالشكوكيون يرون بأن المرء لا يمكنه أن يبرّر تعصّبه؛ لأن من المستحيل معرفة كل شيء بشكل أكيد، فهم يحاججون بأن المرء لا يمكنه – أبداً – أن يعلم يقينا ما إذا كان ما يدّعيه أحدهم صحيحاً أم خاطئاً، ولهذا فإن المعرفة مستحيلة؛ وعلى هذا الأساس، فإن الشكوكية تُثير الأسئلة حول أسس معتقداتنا، وتحاول أن تبيّن بأننا عاجزون عن التيقّن في ما يخصّها.

وعندما يغيب اليقين فإن أي محاولة لفرض معتقداتنا الخاصة بنا على الآخرين تتوازى مع الظلم، ولهذا فما دمنا لا نرغب بارتكاب الظلم، من خلال فرض الموقف التعسّفي لزيد أو عمرو على الآخرين، فلا بدّ أن نتعامل بتسامح مع السُّبُل المختلفة التي ينتهجها الآخرون في العيش.

وبعد أن عرض الأسس النظرية والتاريخية للشكوكية، قام بتقديم أحد الدفاعات الأكثر أصالة عن التسامح ممّا استندت إلى الشكوكية، وهو الدفاع الذي قدّمه ميشيل دي مونتين؛ حيث اعتمد على الشكوكية كأساس في بنائه لدفاعه عن التسامح في أطول مقالة، ضمّها كتابه (المقالات)، والتي جاءت تحت عنوان “دفاع عن ريموند سيبوند”.

وفي الفصل الثالث قدّم بيجان شاهين دفاعاً عن التسامح بالاستناد إلى الحصافة التي تنصح الشخص المتعصّب بأن يأخذ في حسبانه تكاليف التصرّف المتعصّب، ففي معظم الأحيان، يؤدّي التصرّف المتعصّب إلى تكاليف، تعلو كثيراً على تكاليف التصرّف المتسامح، ولهذا، فإن من الأحصف بكثير أن يتصرّف المرء بتسامح تجاه الأمور التي لا يحبّها، أو تثير اشمئزازه، أو لا يرضى عنها: إن التسامح وسيلة براغماتية جيدة، تكفل القِيَم الأخرى في السياق المكاني والزماني، وذلك عند الأخذ بالحسبان للتقييم الواقعي لتكاليف ومنافع التسامح مع الآخرين في سياق حالتنا ورغباتنا.

إننا نتسامح مع الآخرين؛ كي يتسامحوا هم معنا. والتسامح، على المدى البعيد، يعود علينا بتكاليف أقل وأرباح أكثر، إذا قارناه بعواقب التعصّب؛ ولهذا، فإن التسامح مفيد في التأسيس لـ “صيغة تعايش” بين الأطراف المتنافسة”.

تناول بيجان شاهين هذا الدفاع من خلال حجج جون لوك التي طوّرها في “رسالة التسامح” و”الرسالة الثانية في الحكومة”؛ وعرض في هذا الفصل لوجهة نظر، رأى فيها “أن أصالة طرح جون لوك، وعلى الرغم من دفاعه عن التسامح استناداً إلى حقوق الضمير، يكمن في دفاعه استناداً إلى الحصافة”.

والدفاع عن التسامح جاء في الفصل الرابع استنادا إلى “استقلالية الفرد”؛ حيث رأى بيجان شاهين أنه بحسب مَن يدافعون عن التسامح استناداً إلى هذا الأساس: يحقّق الفرد سعادته، إذا عاش حياة طيّبة، اختارها هو، وهنالك أفهام مختلفة، ومتنافسة نوعاً ما، بشأن تحديد الحياة الطيّبة، ويبقى على الفرد أن “يختار” من بينها، ويُضاف إلى ما سبق أننا إذا أردنا للحياة الطيّبة المختارة أن تؤدّي إلى السعادة، فلا بدّ أن يختارها الفرد بنفسه.

وفي نهاية المطاف: إذا أخذنا بعين الاعتبار أننا البشر مخلوقات غير معصومة عن ارتكاب الخطأ، فإن هذه الحُرّيّة تتضمّن أيضاً الحقّ بتفحّص، ومراجعة، وحتى ترك الفَهْم الذي كان يقبله الفرد في ما مضى حول الحياة الطيّبة، وعلى هذا الأساس، فإن مفهوم الاستقلالية يمكن تعريفه بأنه: قدرة الفرد على القيام، وبشكل عقلاني، بإنشاء، ومراجعة، وتنقيح، وعند الضرورة: التَرْك الكامل، لفَهْمه حول الحياة الطيّبة. فالمدافعون عن التسامح بالاستناد إلى الاستقلالية الفردية يحاججون بأنه إذا كان الأفراد يرغبون بعيش حياة راضية، فلا بدّ أن يجري التسامح معهم في أثناء إجرائهم للتجارب المتعلّقة بحياتهم.

وبعد أن انتهي من التحليل المفاهيمي للاستقلالية الذاتية، انتقل إلى دفاع جون ستيوارت ميل عن التسامح يالاستناد إلى هذا المفهوم، وكان كتابه “حول الحُرّيّة” هو الأكثر تفصيلاً في دفاعه عن التسامح، ولذلك أركّز عليه المؤلف.

والفصل الخامس مكرّس للدفاع عن التسامح استناداً إلى الضمير؛ حيث أبدأ بيجان شاهين “أولاً بمناقشة أولوية الضمير ضمن المحفّزات البشرية، وحُرّيّة الضمير، باعتبارها أهمّ المصالح البشرية؛ وعلى هذا الأساس، فإن كل فرد يمتلك مصلحة ذات أولوية، بغضّ النظر عن كُنهها، في القدرة على عيش حياة، تتوافق كُلّيّاً مع ضميره؛ وبينما يعتبر تشكيل حياة المرء وفقاً لضميره أمراً ترافقه السعادة، فإن الحياة التي يعيشها المرء متحدّياً صوت ضميره، تجلب الشعور بالذنب والإحباط والتعاسة؛ فإذا لم يمتلك المرء الحُرّيّة في اتّباع ما يُمليه عليه ضميره، فلن يكون قادراً على تحقيق السعادة؛ ولهذا يجب التسامح مع ما يحمله المرء من معتقدات.

وعلى هذا الأساس، فمن أجل تحقيق السعادة، والتي لن تكون ممكنة، إذا عاش المرء حياته على نحو يعاكس ضميره، يجب أن يُترك المرء وشأنه، أي: أن يتمّ التسامح معه؛ كي يستطيع الاستماع إلى صوت ضميره”.

وبعد ذلك، التفت إلى الدفاع الأول المتصلّب عن التسامح استنادا إلى الضمير، والذي قدّمه بيير بايل بشكل وافٍ في مقالته الموسومة “تعليق فلسفي على العبارة التالية الواردة في الإنجيل (لوقا، 14: 23): ’ألزمهم بالدخول حتّى يمتلئ بيتي”.

قدّم بيجان شاهين نقاشاً معاصراً، جري بين اثنين من كبار المفكّرين الليبراليين، وهما: ويل كيمليكا وتشاندران كوكاثاس: وأوضح “بينما يدافع كيمليكا عن التسامح استنادا إلى الاستقلالية الفردية، يستند كوكاثاس في دفاعه إلى حقوق الضمير؛ وإلى المدى الذي يجعل الاستقلالية أساساً لفَهْم محدّد حول الحياة الطيّبة، أي: الحياة الطيّبة الليبرالية، يأخذ دفاع كيمليكا عن الليبرالية، والذي يستند إلى الاستقلالية، شكلاً شمولياً/ أخلاقياً ويضعه في معسكر الليبراليين الشموليين أو الأخلاقيين، وهؤلاء يرون بأن المُثُل العليا والمبادئ التي تكوّن أساس النظام السياسي الليبرالي لا يمكن فَصْلها عن المُثُل العليا والمبادئ التي تشكّل حياة أعضاء هذا النظام السياسي، والأفراد الذين ينخرطون في عضوية النظام السياسي الليبرالي يُفترض بهم أن يعتنقوا القِيَم الليبرالية الجوهرية، وفي مقدّمتها: الاستقلالية؛ ونتيجة لهذا القبول، فإن الليبراليين الشموليين أو الأخلاقيين لا يمكنهم أن يدعموا أفهاماً للحياة الطيّبة، لا تُولي للاستقلالية منزلة القيمة الجوهرية”.

ولفت إلى أنه على الرغم من ذلك، فإن حُرّيّة الضمير لا تُملي على المرء اتّباع طريق محدّدة في الحياة، ولهذا فإن دفاع كوكاثاس عن التسامح بما فيه من تشديد على حقوق الضمير، يضعه في معسكر الليبرالية السياسية؛ إذ يرى أنصار الليبرالية السياسية بأن الليبرالية منهج سياسي، ينبثق من السعي إلى توفير إطار سياسي، يمكن للأفهام المختلفة أخلاقياً للحياة الطيّبة أن تتعايش فيه بشكل سِلْمي. ومن هذه الزاوية، يمكن لأي محاولة لبناء البنية السياسية لأي وجهة نظر سياسية شمولية متواجدة في المجتمع أن تتسبّب بقَمْع وجهات النظر الأخرى التي تُشاطرها وجهة نظرها الأخلاقية، وبنشوب نزاع سياسي، يهدّد الاستقرار السياسي. ولتفادي الصراع المَدَني، وما يتمخّض عنه من نتائج وخيمة، تجد السياسيين الليبراليين يمتنعون عن منح أي امتيازات لأي فَهْم بعينه حول الحياة الطيّبة، وتفضيله على غيره؛ ونتيجة لهذا الموقف، فإن الليبرالية السياسية تصبح الشكل الأكثر شمولاً من أشكال الليبرالية.

وبعد تقييمه لهذه النظريات الأربعة للتسامح رأى بيجان شاهين أن مفهوم الضمير هو الذي يوفّر الأساس الأكثر إقناعاً وشمولاً في الدفاع عن التسامح الليبرالي.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى