تحليلات سياسيةسلايد

بين تموز 2006 وحزيران 2023: الفشل الإسرائيلي يتوالد

صباح الثاني عشر من تموز 2006، كان قد مرّ أسبوعان فقط على اختطاف الجندي جلعاد شاليط في قطاع غزة، ولذلك كان الجنود في المنطقة الشمالية في حالة تأهب قصوى. وبعد أسبوعين من التأهب، كان التاريخ المذكور (12 تموز 2006) هو اليوم الموعود لهؤلاء الجنود لكي «يشموا رائحة البيت»، بعد انتهاء خدمتهم. في وقت لاحق، سيرد في التحقيقات، أن «الجنود قد خرجوا إلى مهمة كما لو أن الأمر نزهة». انطلقت إلى الطريق مركبتان من طراز «هامر»، في دورية عادية: الأولى مسمّاة على اللاسلكي «يسيمون 4» وعلى متنها 4 جنود، والثانية «يسيمون 4 أ» وعلى متنها 3. آنذاك، قال قائد الدورية للجنود: «صباح الخير. دورية أخيرة. أتمنى للجميع الفرح».

‏لم يكن قد سُجّل أمام قيادة المنطقة الشمالية أي إنذار محدّد حول محاولة اختطاف جندي من قبل «حزب الله»، ولذا فإن القوات لم يجر تعزيزها على الإطلاق.

‏في الساعة 9:01، عند نقطة التبليغ الرقم 105، فُتحت النيران. ‏أطلق مقاتلو المقاومة نيرانهم دفعة واحدة. قُتل من قُتل من الجنود، داخل الآليتين وخارجهما، بينما تمكّن جنديان من الفرار باتجاه شجيرات قريبة. وتمكّن أحدهما من إطلاق صيحة في جهاز الاتصال جاء فيها: «لقد تعرّضنا لهجوم». وقد جاء في التقرير الذي كُتب لاحقاً حول عملية الأسر، أن أسلحة الجنود التي وُجدت بجانبهم، لم تكن مذخّرة وجاهزة للإطلاق. وهكذا، فإن أفراد مجموعة «حزب الله» لم يتعرّضوا لأي نوع من النيران أثناء تنفيذ العملية. بالتزامن، كان كبار قادة الأجهزة العسكرية في إسرائيل يجتمعون من أجل البحث في الخطوات التالية، بشأن عملية عسكرية جارية في قطاع غزة، بعد اختطاف الجندي الإسرائيلي هناك. عند الساعة 9:30، وصلت إلى رئيس الأركان حينها، دان حالوتس، معلومات عامة حول حدث أمني في الشمال، بعدما كان قد مرّ على العملية نحو ‫نصف ساعة.

بدأ الاجتماع كما هو مقرّر. ولمّا كانت المعلومات حول ما يجري في الشمال غامضة، فقد استمر النقاش حول الأحداث في غزة، بينما أجهزة الإخطار لا تزال تصدر ذبذبات على الطاولة. وأثناء الاجتماع، بدأت قصاصات ورقية عليها ملاحظات، ترد إلى داخل الغرفة. وحوالي الساعة 10:00، وصل تقرير حقيقي حول ما يجري في الشمال، أي بعد مرور نحو ساعة كاملة. أخبر رئيس شعبة العمليات حينها، غادي إيزنكوت، المجتمعين، بأنه «فُقد الاتصال مع آليتين مدرّعتين في الشمال»، ثم أبلغ السكرتير العسكري الجميع بفقدان اثنين من الجنود.

وبعد عقد اتصالات سريعة، أعطى وزير الدفاع، عمير بيرتس، الضوء الأخضر ‏للشروع بإجراء «هنيبعل»، ‏وهو إجراء تلقائي يتضمن هجمات فورية يشنّها سلاح الجو على الطرقات والجسور والمعابر والمواقع في جنوب نهر الليطاني، لقطع الطريق على المقاومين الذين سيكونون في طريقهم، مع الجنديين الأسيرين، خارج منطقة الجنوب. لكن ذلك كان بعد فوات الأوان.

الفشل يتكرّر

صباح الثالث من حزيران 2023، تمكّن جندي مصريّ واحد من عبور عدة كيلومترات من تضاريس صعبة للغاية، تحوي عوائق طبيعية واصطناعية، ووصل إلى ما يسمّى «بوّابة الطوارئ» في السياج الحدودي الفاصل بين الأراضي الفلسطينية المحتلة والأراضي المصرية، وهي عادة ما تكون نقطة ضعيفة من السياج يمكن فتحها بسهولة عند الحاجة، ومن المفترض أن تكون سرّية، ولا يعرفها إلا الضباط الإسرائيليون المعنيّون. نجح الجندي في قصّ قضبان البوّابة بواسطة معدّات بسيطة، ودخل الأراضي المحتلة. وقرابة الساعة 6:00 صباحاً، أطلق النار على جندي وجندية من «كتيبة الفهد» المختلطة في الجيش الإسرائيلي، عندما كانا في موقع حراسة يبعد نحو 150 متراً من نقطة اختراق الجندي المصري للسياج، وأصابهما بواسطة سلاحه التقليدي «كلاشينكوف»، وأرداهما على الفور. وبحسب المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، الجنرال دانيال هاجري، فإنه «وفقاً للإجراءات، يجب أن يكون هناك اتصال عبر اللاسلكي كل ساعة مع الجنود في الموقع. في الساعة 4:15 جرى التواصل مع الجنود وتم الردّ. لماذا لم يكن هناك المزيد من الاتصالات بعد ذلك؟ سوف نحقق في الأمر». من هنا، بدأت سلسلة من الأخطاء العملياتية القاتلة، على مستوى القيادات الميدانية على الأرض، وصولاً إلى المستويات الأعلى في قيادة المنطقة الجنوبية، وقيادة الأركان في تل أبيب.

في الساعة 8:00، أي بعد ساعتين على مقتل الجندي والجندية، جرى الاتصال بهما من قيادتهما، فلم يُجيبا. ثمّ عند الـ9:00، وصل قائد «كتيبة الفهد المختلطة» إلى موقع الحراسة، حيث وجد جثتي الجنديين، وبجانبهما سلاحاهما غير المذخّرين، ما يعني أنهما لم يقوما بأي ردّ فعل. وخلال ساعة بعد ذلك، بدأت تعزيزات تصل إلى المكان، من دون أن يدرك أحد بعد ما الذي حدث بالفعل. ثم، بعد مرور نحو 4 ساعات، تمكّنت طائرة استطلاع إسرائيلية من تحديد موقع مشتبه فيه على بعد نحو كيلومتر ونصف كيلومتر، من موقع الحدث الأول. وعلى الفور، توجّه قائد الكتيبة مع جنوده إلى الموقع حيث الجندي المصري الذي كان قد احتمى خلف صخور كبيرة في المكان، واستعدّ لمواجهة الجنود. تأخّرت طائرات الهليكوبتر القتالية، فقرّر قائد القوة الإسرائيلية مهاجمة الجندي المصري، من دون دعم جوي، ليقع اشتباك قصير معه، نتج منه مقتل رقيب في الجيش الإسرائيلي، وإصابة جندي، واستشهاد الجندي المصريّ.

وبحسب التقارير الإسرائيلية، يقوم الجيش الإسرائيلي بفحص ما إذا كان قرار الهجوم قبل وصول الدعم الجوي، إجراءً صحيحاً. ويُضاف إلى سلسلة الفشل الإسرائيلي، التبرير الذي قدّمه المتحدث باسم الجيش، لعدم تفعيل أجهزة الاستشعار على السياج الذي اخترقه الجندي المصري، ومفاده «سوء الأحوال الجوية»، أي الحرّ الشديد، المترافق مع غبار كثيف. ووفقاً للمعلومات، فقد وُجدت بحوزة الجندي المصري حقيبة ظهر فيها معدّات و6 مخازن رصاص وسكاكين، ما يعني – بحسب العدو – أنه خطّط لمسار التسلل، وعرف موقع الجنود، وحضّر للعملية «بدقّة».

فشل عملياتي

تعالت المطالبات في وسائل الإعلام الإسرائيلية طوال اليومين الماضيين، بكشف ملابسات وأسباب «الفشل العملياتي» الذي وقع فيه جيش العدو. حتى إن شقيقة الجندية القتيلة، طالبت الجيش بتقديم تبرير دقيق لما حدث، في ظلّ تضارب وغموض في المعلومات. واعتبر المحلل العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوسي يهوشع، «حدث الأمس فشلاً عملياتياً في الجيش الإسرائيلي، حيث لم تكن قوات الرضوان التابعة لحزب الله، هي من عبرت السياج، إنما جندي مصري واحد، بسلاح كلاشينكوف، وقد أحرج الجيش الإسرائيلي بأكمله»، مضيفاً أن «الجنود الثلاثة القتلى لم يطلقوا رصاصةً واحدة». ورأى أنه «قبل الحديث عن هجوم على إيران، ينبغي التحقّق مما يحدث مع الجيش البرّي المهمل»؛ إذ إن «مقاتلي الجيش الإسرائيلي سيواجهون قوات الرضوان في لبنان، وإذا كانت هذه هي النتيجة أمام شرطي مصري غير مدرّب، فعلى الجيش الإسرائيلي إجراء فحص داخلي، وتغيير الأولويات». كما أعاد يهوشع التذكير بأن «هذه هي عملية التسلل الثانية خلال الثلاثة أشهر المنصرمة بعد تسلل منفّذ عملية مجدو من لبنان، وهذا بحدّ ذاته فشل». بدوره، طالب محلّل «القناة الـ14»، هاليل روزين، رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي، بـ«اتخاذ خطوات مهمة بالفعل في الأيام المقبلة، بدءاً من تغيير المفهوم العملياتي في المنطقة، من خلال تحسين تعليمات فتح النار، ثم معاقبة كل المتورّطين من الصغار إلى الكبار».

ذراع البرّ الفاشل

بين عمليتي 2006 و2023، فوارق كثيرة في الزمان والمكان، والظروف العملياتية، وميزان القوّة. لكن، بينهما أيضاً، مشتركات كبيرة، لطالما شغلت، وستشغل الآن أكثر، بال قيادة الجيش الإسرائيلي، إذ بعد نحو 17 عاماً من العملية الأولى، وعشرات بل مئات الخطط والتدريبات والمناورات، واستخلاص العبر والدروس، لا يزال جنود الجيش الإسرائيلي ينتقلون من فشل إلى آخر، حين يقاتلون على مستوى الأفراد، وجهاً لوجه، مقاتلين بمستوى تدريب وتجهيز مقبول، لا أكثر. أما «استعراضات» العدو في الضفة الغربية، حيث يتحكّم بالميدان استخباراتياً وعملياتياً، وتعاونه مع أجهزة أمن السلطة، ويقابله مقاومون بأسلحة فردية قليلة، ومن دون أي تدريب حقيقي، فلا تعدو كونها صورة إعلامية لا تعكس الحقيقة التي يدركها قادة العدو جيداً.

ومنذ حرب تموز، أُصيب ذراع البرّ في الجيش الإسرائيلي بانتكاسة، يبدو أنه لم يستطع النهوض منها بعد، إذ فشل عدّة مرّات في محاولات التوغّل في قطاع غزة، وكانت نتائج تلك المحاولات وخيمة وصعبة للغاية على جنود وضباط المشاة فيه. كما أن هؤلاء، واجهوا حوادث كثيرة، تبيّن فيها فشلهم في تحقيق الأهداف. على أن ذلك ليس مشكلة الضباط والجنود وحدهم، بل مشكلة عميقة يعانيها الجيش برمّته منذ سنوات طويلة. فقد تركّزت جهوده وميزانياته على بناء قدرات جوّية متفوّقة، وقدرات استخباراتية متقدّمة، وكذلك على مستوى الأنظمة الدفاعية كالقبّة الحديدية وشبيهاتها، فضلاً عن إدخال التكنولوجيات المتطوّرة في كل تفصيل في آليات عمله، بينما كان ذراع البرّ يضعف أكثر فأكثر، ويفقد جنوده وضباطه ثقتهم بأنفسهم، وهم يخضعون لجولات تحقيق متتالية حول حوادث فشل متتالية، من لجنة فينوغواد 2006، إلى لجنة التحقيق في حدث الحدود الفلسطينية – المصرية.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى